الهند وإسرائيل وفلسطين معادلات جديدة تتطلب أشكال تضامن جديدة

شهد موقف الهند تجاه إسرائيل وفلسطين تحولاً جذرياً. فبعد أن كانت نيودلهي متجذرة في التضامن المناهض للإمبريالية، باتت الآن توازن بين خطابها وتنامي علاقاتها العسكرية والاقتصادية والأيديولوجية مع إسرائيل. يتتبع هذا الكتاب المطول المسار التاريخي، ويدرس الديناميكيات الإقليمية، ويستكشف كيف تُعيد الهندوتفا تشكيل السياسة الخارجية الهندية وردود أفعالها الداخلية.

Authors

Longread by

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

أقدم ثلاثة حلفاء أقوياء لإسرائيل –المملكة المتحدة وفرنسا وكندا– على تهديدها بـ ”إجراءات ملموسة“ ضدها بسبب حملة الإبادة الجماعية التي تشنّها في غزة، في حين تواصل الهند تزويدها بالأسلحة والطائرات بدون طيار. هذا الأمر لن يفاجئ سوى أولئك الذين قبلوا دون تشكيك التصريحات الرسمية الداعمة بقوة للقضية الفلسطينية من قِبَل الحكومات الهندية المتعاقبة منذ الاستقلال. بدأت الهند -كدولة جديدة بعد الاستعمار- من موقف معادي للإمبريالية وتضامني قوي مع النضال الفلسطيني من أجل التحرّر، لكنه تضمن في الوقت نفسه ومن البداية بذور الاعتراف الجزئي بالكيان الصهيوني، بل وحتى مناصرته في بعض الأحيان. كما لعبت اعتبارات الواقعية السياسية المتعلقة بتحسين العلاقات مع الغرب، أو مواجهة باكستان من خلال زيادة النفوذ والدعم من دول الشرق الأوسط، دورًا مهمًا وأصبحت أكثر أهمية بمرور الوقت. فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتحرير الاقتصاد الهندي، تطورت هذه العلاقة المتناقضة إلى تعاون أكثر انفتاحًا مع إسرائيل قبل وصول حكومة مودي بوقت طويل. لكن مع صعود النزعة القومية الهندوسية (هندوتفا Hindutva) النيوليبرالية في العقود القليلة الماضية، أصبحت حتى الإدانة الرمزية للجرائم الإسرائيلية شيئًا من الماضي، إذ باتَت الدولتان الهندية والصهيونية أكثر توافقًا أيديولوجيًا وتعاونًا اقتصاديًا وعسكريًا.

من المؤكد أن ذلك الثلاثي الغربي لم يوقف دعمه المادي لإسرائيل، بما في ذلك مبيعات الأسلحة. لكن البيانات الرسمية الصادرة عنهم تتضمن تناقضًا. فرغم أن بيانهم المشترك الصادر في 19 أيار/مايو 2025 لم يتهم إسرائيل بانتهاك القانون الدولي، فإنه ذكر أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة كانت "غير متناسبة على الإطلاق" و"أننا لن نقف مكتوفي الأيدي بينما تواصل حكومة نتنياهو هذه الأفعال الفظيعة". علاوة على ذلك، أضاف بيانهم: "لن نتردد في اتخاذ مزيد من الإجراءات، بما في ذلك فرض عقوبات محدّدة الأهداف" (Gov.uk 2025).

وقعت إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس في 17 كانون الثاني/يناير 2025، لكنها جددت غاراتها الجوية في 18 آذار/مارس 2025 منتهكةً بذلك اتفاق وقف إطلاق النار. وأعلن نتنياهو بعد ساعات أن إسرائيل "استأنفت القتال بكامل قوتها". وصدر عن الهند بيان رسمي بعد ذلك يومين لكنه لم يذكر أي شيء عن هذا الخرق للاتفاق الذي أبرمته إسرائيل مع حماس في وقت سابق. وفيما عدا التصريحات المهدّئة، كان البيان حريصًا للغاية على عدم ذكر أي شيء قد يوحي بانتقاد (ناهيك عن إدانة) إسرائيل بالاسم. وأقصى ما وصل إليه البيان في الإشارة إلى ما يحدث في غزة هو قوله: "رحبت الهند باتفاق كانون الثاني/يناير 2025 لإطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار في غزة. وأكدت الهند على الحاجة إلى توفير المساعدات الإنسانية بشكل آمن وسريع ومستدام" (Ministry of External Affairs 2025). كرّر المندوب الدائم للهند لدى الأمم المتحدة ب هاريش في مناقشة مجلس الأمن في 30 نيسان/أبريل من هذا العام التصريحات المعتادة حول الحاجة إلى وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن وتقديم المساعدات الإنسانية دون عوائق، لكنه حرص (على الرغم من مرور 20 شهرًا) على إدانة الهجوم الإرهابي الذي وقع في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وممّا يكشف المعايير الأخلاقية المزدوجة القبيحة للحكومة الحالية -بقيادة مودي- عدم وصفها منذ ذلك الحين أيًّا من أعمال إسرائيل في غزة بأنه عمل إرهابي٬ ولا قتلها المتعمّد للمدنيين بشكل جماعي بأنه حملة إرهابية، ناهيك عن وصفها بالإبادة الجماعية. في الواقع، على الرغم من أنّ الهند قد وقعت وصدقت على اتفاقية الإبادة الجماعية، فإن حكومة مودي رفضت الموافقة أو حتى التعليق على مبادرة جنوب إفريقيا بدعوة محكمة العدل الدولية (الهند عضو فيها) للتحقيق والبتّ في تهمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.

هذا ليس كل شيء. في كندا والولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية -بما في ذلك ألمانيا- خرجت مظاهرات كبيرة لدعم الفلسطينيين وسكان غزة على وجه الخصوص. أما الهند التي يُفترض أنها أكبر ديمقراطية في العالم، فكانت استجابة المجتمع المدني فيها محدودة للغاية بالمقارنة بتلك البلاد. ويرجع ذلك جزئيًا إلى الخوف القمع بشكل ما، ففي الولايات التي يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) وفي دلهي، وقعت حملات قمع من قبل الشرطة عندما جرى تنظيم تحرّكات. وهذا يعد دليلًا على نجاح قوى القومية الهندوسية (أو هندوتفا التي تعني "النزعة أو السمة الهندوسية") في زرع معاداة الإسلام من خلال تقديم فلسطين على أنها قضية معادية للهندوسية، ومن ثم "معادية للوطنية". الأمر وصل إلى أنّ من بين حوالي 41 حزبًا وهيئة منتخَبَة مُمَثّلة في الغرفة الدنيا بالبرلمان الحالي (مجلس الشعب أو لوك سابها) 31 حزبًا لم يَذكروا كلمة واحدة عمّا يحدث بين إسرائيل وغزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. لماذا تهتمّ بقضية تتعلق بالسياسة الخارجية، خاصة وأقسام عديدة من الأغلبية الهندوسية والناخبين تعتبرها "استرضاءً للمسلمين"؟! إنّ سيادة هذا الرأي بين العديد من التجمّعات السياسية في حد ذاته مؤشر على مدى انتشار وعمق المشاعر القومية الهندوسية في المجتمع المدني. حتى في الولايات التي لا يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا - مثل ولاية كارناتاكا التي يحكمها حزب المؤتمر- جرى تقييد الجهود الرامية إلى تنظيم مظاهرات لدعم فلسطين، وإن لم يتم ذلك بوحشية كما كان الحال في ولاية أوتار براديش، التي يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا، والتي لو كانت دولة لاحتلت المرتبة الخامسة بين دول العالم من حيث عدد السكان. (The Hindu 2024؛ Hussain and Maik 2024).

ماذا حدث للهند التي كان من المفترض أنها دولة رائدة في الجنوب معروفة بدعمها الطويل والمتسق للقضية الفلسطينية؟ أجل، لقد دعمت الهند في الماضي القضية الفلسطينية، لكنها لم تكن أبدًا متسقة أو مبدئية كما حاولت حكوماتها وجماعات الضغط المؤيدة لها أن تُظهرها. فحتى قبل وصول حزب بهاراتيا جاناتا إلى السلطة (1998 إلى 2004 و2014 فصاعدًا)، كانت الحكومات الأخرى مستعدة -بدرجة أو بأخرى- للتضحية بمصالح الفلسطينيين من أجل تعميق العلاقات مع إسرائيل. لقد ساهمت الحكومات التي قادها حزب بهاراتيا جاناتا في تسريع العلاقات بين الهند وإسرائيل بشكل كبير، إذ أنّ النزعة القومية الهندوسية التي تكمن في صميم الحزب، ومنظّمته الأم القائمة على الكوادر راشتريا سيفاك سانغ (أو فيلق المتطوعين الوطني RSS)، والعديد من الهيئات التابعة له، لطالما افترضت وجود قرابة أيديولوجية معينة مع الصهيونية.1 وقد انتُخب حزب بهاراتيا جاناتا بقيادة ناريندرا مودي رئيسًا للوزراء في حزيران/يونيو 2024 لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات.

ويبيّن هذا في خطوط عريضة واضحة المسار التاريخي للتغيّرات الحكومية في الهند. وما نسعى إلى تقديمه هنا بالأساس هو تعقب التطور الذي طرأ على العلاقات بين الهند وإسرائيل وفلسطين بالتوازي مع هذه التحولات في الحكم المركزي. كما سنلقي نظرة سريعة على طبيعة العلاقات بين إسرائيل ودول جنوب آسيا الأربع المجاورة للهند، وهي سريلانكا وباكستان ونيبال وبنغلاديش.

غاندي ونهرو

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وصعود الحركة الوطنية الهندية ضد الحكم الاستعماري البريطاني، تبنى قادتها مثل غاندي ونهرو النضالات ضد الإمبريالية البريطانية في أماكن أخرى . جاء دعم المقاومة الفلسطينية بشكل طبيعي، خاصة بعد الانتفاضة الكبرى عام 1936 التي استمرت حتى عام 1939.1 علاوة على ذلك، رأى غاندي أن إقامة وحدة شعبية بين الهندوس والمسلمين أمر أساسي لرؤيته لأفضل طريقة لمواجهة البريطانيين، وانضم حزب المؤتمر إلى المنظمات الإسلامية الرائدة مثل الرابطة الإسلامية في الهند (AIML) في دعمها لفلسطين. لكن ماذا عن صعود القومية اليهودية والطموح الصهيوني لخلق دولة ذات أغلبية يهودية في فلسطين؟ سعى العديد من الأنصار البارزين لهذه القضية إلى كسب دعم غاندي لهذا الهدف، خاصة أنه خلال إقامته في جنوب إفريقيا (1893-1914) كان له علاقات سياسية وشخصية وثيقة مع العديد من اليهود الذين انضموا لاحقًا إلى الحركة الصهيونية، مثل هيرمان كالينباخ وهنري بولاك. وهذا جعلهم سفراء غير رسميين لمحاولة تجنيد غاندي.

في عام 1931 كان غاندي يحضر مؤتمر المائدة المستديرة الثاني لمناقشة الإصلاحات السياسية المحتملة في الهند في لندن، فأجرى مقابلة مع مجلة جويش كرونيكل الأسبوعية أوضح فيها أنه يرى الصهيونية -أو العودة إلى صهيون- كبحث عن التحقّق الروحاني الداخلي يمكن أن يحدث في أي مكان وأنّ الصهيونية تختلف عن المطالبة الجغرافية بـ"إعادة احتلال فلسطين"، وأنّ الهجرة إلى هناك تتطلّب موافقة العرب. زار كالينباخ غاندي في منتصف عام 1937 في معتكف خارج بومباي وأقام هناك لأكثر من شهر، فأقنع غاندي بأنّ التحقق الروحاني الصهيوني لا يمكن فصله عن الاستيطان في فلسطين، وهكذا ظهر تناقض في تفكير غاندي استمر حتى بعد أن أعاد التأكيد على أنّ وعد بلفور لا يمكن أن يبرّر ذلك، وأنّ الاستيطان يجب أن يتم فقط عندما "يكون الرأي العام العربي جاهزًا له" (Imber 2018).

من يزعمون في الهند أنّ غاندي لم يكن متناقضًا أبدًا -كالأحزاب اليسارية ومثقفيها اليوم- يستشهدون دائمًا بمقاله الافتتاحي المنشور في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1938 في صحيفته هاريجان، حيث قال إنّ فلسطين ملك للعرب بقدر ما إنجلترا للإنجليز وفرنسا للفرنسيين. كان هذا هو الرأي السائد وغير المطعون فيه بشكل جوهري لدى الغالبية العظمى من المثقفين الذين يعلّقون ويكتبون عن المسار التاريخي للعلاقات بين الهند وإسرائيل وفلسطين حتى وقت قريب. مع صعود حزب بهاراتيا جاناتا إلى السلطة السياسية، تسعى قلّة من المثقفين المتحالفين معه إلى إعادة تفسير إرث "أب الأمة" كوسيلة لإضفاء مزيد من المصداقية على السياسة الحالية المؤيدة بقوة لإسرائيل (Kumaraswamy 2010).

في آذار/مارس 1946، استقبل غاندي السيد هونيك عضو المؤتمر اليهودي العالمي، وكذلك س سيلفرمان العضو اليهودي بالبرلمان البريطاني عن حزب العمال. في المناقشة التي جرت في تلك الزيارة، طُرح السؤال التالي على غاندي وسجّله سكرتيره الشخصي بياريلال ناير: "هل يمكننا أن نعتبر أنك تتعاطف مع تطلّعنا إلى إقامة وطن قومي لليهود؟" لم يتمّ تسجيل رد غاندي، إذ أن بياريلال دمّر انتقائيًا بعض الوثائق المتعلقة بفلسطين بعد وفاة غاندي في عام 1948. لكن سيلفرمان ذكر الرد لاحقًا للصحفي الأمريكي لويس فيشر الذي اتصل بغاندي بعد حوالي ثلاثة أشهر من هذه المناقشة، وأكّد صحة هذا الردّ. إذ قال غاندي: "أخبرت سيلفرمان أن اليهود لديهم أساس قوي في فلسطين. إذا كان للعرب حق، فإن لليهود حق أسبق". في عدد 21 تموز/يوليو من مجلة هاريجان، يقول غاندي: "صحيح أنني قلت شيئًا من هذا القبيل خلال محادثة طويلة مع السيد لويس فيشر حول هذا الموضوع". ثم يواصل حديثه عن الصهاينة قائلاً إنّ عليهم أن يتخلّوا عن الإرهاب وأن يتوقفوا تمامًا عن العنف. "لماذا يلجأون إلى الإرهاب لإنجاح هبوطهم القسري في فلسطين؟ إذا ما اعتمدوا سلاح اللاعنف الذي لا مثيل له... فستكون قضيتهم هي قضية العالم... سيكون هذا هو الأفضل والأكثر إشراقًا". ومع ذلك، فإن التقييم الأكثر توازنًا لموقف غاندي الإجمالي هو أنه جمع بين دعمه لفلسطين لتصبح دولة ذات سيادة ومستقلة تحت السيطرة العربية، مع اعتبار رغبة اليهود في الهجرة إلى هناك أمرًا طبيعيًا، وأنّ حقوقهم الثقافية تستوجب الحماية. لا أحد يعلم ما إذا كان سيعارض لاحقًا استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولكن من المحتمل أنه كان سيضيف شرطًا بأنّ أيّ تدفقات من هذا القبيل يجب أن تخضع لموافقة العرب.

كان نهرو -مثل غاندي- متعاطفًا بشدة مع اليهود نظرًا للطريقة التي عُومِلوا بها قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. لكن هذا التعاطف لم يمتد إلى دعم جهودهم لإنشاء دولة صهيونية بالتعاون مع الإمبراطورية البريطانية. كانت الهند واحدة من 2 عضوًا في لجنة الأمم المتحدة المعنية بفلسطين (UNSCOP) التي أُنشئت في أيار/مايو 1947 لتقديم تقرير إلى الجمعية العامة عندما تخلت بريطانيا عن مسؤولية الانتداب. طرحت الهند (مع إيران ويوغوسلافيا) خطة للحفاظ على الوحدة الفيدرالية وصوّتت ضد خطة الأغلبية لتقسيم فلسطين التي كان من شأنها منح 55٪ من الأراضي لليهود (الذين كانوا يمثلون حوالي 30٪ من السكان آنذاك)، لكنها كانت ترسم الحدود بطريقة تجعل الفلسطينيين يتحملون عبء الانتقال في معظم الأحوال. على أيّ حال، كانت هذه الخطة مجرد توصية ولم تكن ملزمة. علاوةً على ذلك، رفض الجانب الفلسطيني هذه العملية برمّتها لأنها تنتهك التزام الانتداب بمنح الاستقلال الكامل. لكن في عام 1950، اعترف نهرو بإسرائيل على الرغم من أنها -خلافًا لخطة التقسيم- استولت بالقوة على 78٪ من الأراضي. في أيلول/سبتمبر 1950، أنشأت الوكالة اليهودية مكتبًا للهجرة في بومباي (مومباي حاليًا) نظرًا لوجود حوالي 60 ألف يهودي (من بني إسرائيل الهنود والبغداديين) قيل إنهم هاجروا إلى الهند أو اعتنقوا اليهودية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.3 تم تحويل هذا المكتب لاحقًا إلى مكتب تجاري، ثم أصبح قنصلية صغيرة في عام 1953.

أولاً، في أعقاب النكبة التي وقعت بين عامي 1947 و1949، لم يكن هناك كيان سياسي مستقلّ يُمثّل الشعب بشكل حقيقي يمكنه التحدث باسم المصالح الفلسطينية ويمنحها الأولوية.4 ثانياً، اعترفت الهند بعد التقسيم بباكستان، فلماذا لا تعترف بإسرائيل؟ وقد اعترفت كل من إيران وتركيا بالفعل بإسرائيل، وهما دولتان ذات أغلبية مسلمة. علاوة على ذلك، تمّ قبول إسرائيل كعضو في الأمم المتحدة في أيار/مايو 1949، وقد وافقت كشرط لانضمامها على القرار 194 بشأن "حق العودة" للفلسطينيين النازحين، وهو ما لم تف به بالطبع. ثالثًا، كان الاتحاد السوفيتي أول دولة تعترف قانونيًا بإسرائيل في أيار/مايو 1948، لذا لم يعترض الحزب الشيوعي الهندي -الذي كان آنذاك القوة المعارضة الرئيسية- على قرار نهرو. وتعبيرًا عن المراعاة الجزئيّة لمشاعر العرب، امتنع نهرو عن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة. كانت الواقعية السياسية هي التي دفعت نهرو في البداية إلى الاعتراف بإسرائيل، ثمّ كبحته عن ذلك.

اندلعت الحرب حول كشمير بين الهند وباكستان في عام 1948. وبينما سعت الهند بقيادة نهرو إلى اتخاذ موقف غير منحاز للبقاء بعيدًا عن التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كانت باكستان أكثر انفتاحًا على المبادرات السياسية والعسكرية الأمريكية. إن إبقاء العلاقات مع إسرائيل في حالة من عدم اليقين ما كان ليزعزع الدعم الإسلامي القائم لحكومة نهرو، لكن الأهم بالنسبة إليه أن جمال عبد الناصر كان قد وصل إلى السلطة في عام 1952 في مصر، الدولة الرئيسية في الشرق الأوسط. كان عبد الناصر يدعو إلى القومية العربية، وكان يميل بشكل مماثل إلى اتباع سياسة عدم الانحياز، وكان أكثر تعاطفًا مع الهند عن باكستان. علاوةً على ذلك، كان تحسين العلاقات الهندية مع الحكومات العربية من أجل التجارة والدعم الدبلوماسي يُعتبر أكثر فائدة من تسريع العلاقات مع إسرائيل الوليدة. من ناحية أخرى، من الأمور الموضحة لحقيقة أن معاناة الفلسطينيين لم تكن ذات أهمية تذكر في تفكير السياسة الخارجية الهندية أن نهرو كان حريصاً على إشراك إسرائيل في مؤتمر باندونغ عام 1955، وكان هذا المؤتمر مقدّمة لتشكيل مجموعة دول عدم الانحياز لاحقًا. ففي كانون الأول/ديسمبر 1954 اجتمع قادة إندونيسيا والهند وباكستان وبورما وسيلان في مدينة بوجور بولاية جاوة في إندونيسيا للتحضير للمؤتمر. ضغط نهرو من أجل ضمّ إسرائيل إلى باندونغ. لحسن الحظ، تم منع ذلك من قبل باكستان التي كانت قلقة بشأن مشاعر الدول العربية نظرًا لصراعهم مع إسرائيل (Anderson 2024).

في عام 1955، انضمت باكستان إلى حلف بغداد ومن ثمّ صارت متحالفة عسكريًا بشكل رسمي مع الولايات المتحدة. وقد عارضت كل من مصر والهند هذا الحلف، الذي ضم أيضًا إيران والعراق وتركيا والمملكة المتحدة (وأعيدت تسميته لاحقًا بمنظمة حلف وسط آسيا CENTO)، ووقّعت مصر والهند معاهدة صداقة خاصة بهما في ذلك العام. بعد العدوان على السويس في 1956 الذي شنته إسرائيل والمملكة المتحدة وفرنسا، لم يعد هناك أي مجال لتعميق العلاقات بين الهند وإسرائيل. استمر هذا الجمود الدبلوماسي إلى ما بعد عهد نهرو ليشمل كامل الفترة من 1964 إلى 1984، وهي الفترة التي شهدت أيضًا الحروب العربية الإسرائيلية في 1967 و1973 والغزو الإسرائيلي للبنان في 1982. لكن على الرغم من التجميد الدبلوماسي، كانت هناك تفاعلات مهمة خلف الكواليس بين الهند وإسرائيل. توفي نهرو في أيار/مايو 1964. لكن خلال حرب 1962 مع الصين، تلقت الهند قذائف هاون وذخائر ثقيلة من إسرائيل واشترت المزيد من الأسلحة منها خلال حربيْ الهند وباكستان في 1965 و1971 (Bhattacherjee 2017؛ Essa 2022).

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

من عام 1965 إلى عام 1998

بعد وفاة الزعيم المؤقت لحزب المؤتمر، لال باهادور شاستري، في عام 1966 (الذي أبرم معاهدة السلام مع باكستان لإنهاء حرب عام 1965)، أصبحت السيدة إنديرا غاندي -ابنة نهرو- رئيسة الوزراء الجديدة. في عام 1968، أنشأت السيدة غاندي وكالة المخابرات السرية المسمّاة بجناح البحث والتحليل (RAW)، وبدأت التعاون مع الموساد. فقد كان كل من نيودلهي وتلّ أبيب تنظران إلى باكستان والصين على أنهما عدوّان مشتركان، وكانت غاندي قلقة بشأن العلاقات العسكرية المتنامية بين البلدين، ثمّ لاحقًا بين باكستان وكوريا الشمالية.

أما بالنسبة لإسرائيل، فقد كان يُعتقد أن ضبّاط الجيش الباكستاني يقدّمون تدريبًا لليبيّين والإيرانيين على كيفية التعامل مع المعدات العسكرية الصينية والكورية الشمالية (Rediff.com 2003). ظلّ هذا الأمر طيّ الكتمان، بينما أعلنت الهند في عام 1974 اعترافها علنًا بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. في عام 1975، شاركت الهند في رعاية قرار الأمم المتحدة 3379 الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية.5 في حزيران/يونيو 1975، فرضت غاندي حالة الطوارئ ولم تستعد الانتخابات العامة إلا في آذار/مارس 1977، لكنّها هُزمت. في كانون الثاني/يناير 1980، أعيد انتخاب غاندي وجناحها بحزب المؤتمر الوطني للسلطة المركزية، وساعدت بعض التطورات على التقارب بين الهند وإسرائيل. لكن الفترة الانتقالية بين 1977 و1979 -عندما كانت السلطة تشغلها حكومة ائتلافية بقيادة حزب جاناتا- كانت مهمة في حدّ ذاتها.

كان حزب جاناتا تحالفًا فضفاضًا بين أحزاب وجماعات سياسية مختلفة اتفقت على العمل معًا. وكان أقوى مكوناته حزب جان سانغ القومي الهندوسي (سلف حزب بهاراتيا جاناتا الذي تشكّل بعد انهيار حزب جاناتا في عام 1980) الذي كان دائمًا مؤيدًا لإسرائيل ويرى فيها حصنًا مهمًا ضد دول الشرق الأوسط التي يهيمن عليها المسلمون. كان زعيمه الرئيسي أ ب فاجبايي وزيراً الخارجية، ممّا ساعد في تمهيد الطريق لزيارات سرية قام بها وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك موشيه دايان إلى الهند. في آب/أغسطس 1977، التقى دايان بفاجبايي ورئيس الوزراء آنذاك مورارجي ديساي. على الرغم من أن هذه الزيارة لم تُسفر عن أيّ تغيير في سياسة الهند، فإنّ مجرد حدوثها كان مؤشّرًا على اتجاه الرياح الجديدة، وإن كانت خفيفة.

كان التعاون بين جناح البحث والتحليل والموساد قد بدأ في وقت سابق، ولا شك أنه لعب دورًا في ترتيب زيارة دايان. ويقال إنه عاد مرة أخرى في عام 1978 للقاء نظرائه من المسؤولين الهنود الكبار، وربما كبار أعضاء جناح البحث والتحليل، وربما يكون ذلك قد تم في نيبال.6 يبدو أن من بين الأمور التي نوقشت خلال تلك الفترة عرض إسرائيلي للقيام بجهد مشترك لتنفيذ ضربة ضدّ مصنع كاهوتا لتخصيب اليورانيوم في باكستان لمنع صنع قنبلة نووية. لا يمكن تأكيد أو نفي مشاركة دايان في هذه المناقشات إلّا من خلال ما قد يُكشف من وثائق حكومية سرّية في المستقبل، إلّا أنّ مصادر أخرى تتحدث بوضوح عن وجود خطة لعملية مشتركة لتنفيذ مثل هذا الهجوم في وقت ما بين عامي 1982 و1984 لكن تم إلغاؤها في مرحلة متأخرة.7 وفي النهاية ذلك بالضبط ما فعلته إسرائيل في عام 1981 عندما دمّرت مفاعل أوزيراك النووي العراقي.

بعد اغتيال إنديرا غاندي في عام 1984، اكتسح حزب المؤتمر الانتخابات وأصبح ابنها راجيف غاندي رئيسًا للوزراء بالرغم من أنه لم يبدِ سابقًا أي اهتمام بتراث عائلته السياسي. في 1 تشرين الأول/أكتوبر 1985، شنت إسرائيل هجومًا جويًا على مقرّ منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، ممّا أسفر عن مقتل 60 بين رجل وامرأة وطفل، وهو ما أدانه مجلس الأمن الدولي على الفور. وصل رئيس الوزراء راجيف غاندي إلى مدينة نيويورك في وقت لاحق من ذلك الشهر لحضور الذكرى الأربعين لتأسيس الأمم المتحدة. وعلى الرغم من هذا الهجوم الوحشي، لم يتردّد في عقد اجتماع خاص على هامش المؤتمر مع نظيره رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز. كان هذا أول اجتماع على الإطلاق بين قادة البلديْن، وهو ما يشير في حد ذاته إلى فقدان الحساسية للقضية الفلسطينية من جانب الهند.

وقد ساهم في هذا التحوّل الهندي تغيّر وجهات نظر منظمة التحرير الفلسطينية نفسها. بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982، تم إبعاد القيادة الفتحاوية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس البعيدة. علاوة على ذلك، أصبح من الواضح لقيادتها أنّ استراتيجية حرب العصابات التي تتبعها لن تؤدي إلى النصر. وبالفعل، قادت الانتفاضة الأولى في الأراضي المحتلة في عام 1987 قيادة محلية. وفي حين لعبت فتح في المنفى دورًا في دعم الانتفاضة، فإنّ القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة كانت تتألف بالأساس من مجالس محلّية وقادتها، بالإضافة إلى ممثلين ومقاتلين قدامى منتسبين ليس فقط إلى فتح، بل أيضًا إلى فصائل فلسطينية أخرى مثل حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية اليساريّتين والحزب الشيوعي. بعد الانتفاضة، أقدمت منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة ياسر عرفات، على تغيير استراتيجي جذري نحو قبول حلّ الدولتين مع المطالبة بنسبة 22٪ فقط من إجمالي الأراضي التي استولت عليها إسرائيل، أي الجزء الذي احتلته إسرائيل بعد حرب 1967. وقد نشأت تفاعلات سياسية جديدة أدّت في النهاية إلى اتفاقات أوسلو في 1993-1995، والتي كانت أهمّ نتائجها بداية تحوّل حركة فتح، بصفتها حاكمة للسلطة الفلسطينية المُنشأة حديثًا، إلى مقاول من الباطن للحفاظ على الاحتلال الإسرائيلي. وهكذا باتت الطريق مُعبَّدَة أمام الهند، في ظلّ حكومة رئيس الوزراء ناراسيمها راو (1991-1996) بقيادة حزب المؤتمر، للتحرّك نحو الاعتراف الكامل بإسرائيل في عام 1992، فتم فتح سفارات في دلهي وتل أبيب. وبعد ذلك، كانت كل حكومة متعاقبة في نيودلهي تدعم القضية الفلسطينية بالكلام أو حتى بالمال من جهة، بينما تعمّق من جهة أخرى علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية وعلاقاتها في "الأمن السيبراني" و"مكافحة الإرهاب" مع إسرائيل.

صعود اليمين المتطرف

في حزيران/يونيو 1996 تشكلت حكومة ائتلافية غير تابعة لحزب المؤتمر ولا لحزب بهاراتيا جاناتا، وهي الجبهة المتحدة التي ضمت حوالي 13 حزبًا، وسقطت في آذار/مارس 1998. كانت هناك صفقات متبادلة تمثلت في تصدير اسرائيل إلى الهند طائرات بدون طيار ونظام رادار ’الصنوبر الأخضر‘ وصواريخ أرض-جو بعيدة المدى. جاءت بعد ذلك أوّل حكومة بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا في 1998-1999، ثم تمت إعادة انتخابها لولاية كاملة مدتها خمس سنوات من 1999 إلى 2004، وكلاهما تحت قيادة رئيس الوزراء أ ب فاجبايي. خلال فترة حكمه، وقعت في عام 2003 أول زيارة رسمية على الإطلاق لرئيس وزراء إسرائيلي إلى الهند، وهو أرييل شارون. في وقت سابق من حرب كارجيل مع باكستان عام 1999، قدّمت إسرائيل دعمًا عسكريًا للهند بينما مارست واشنطن ضغوطًا ناجحة على إسلام أباد لسحب قواتها. وسرعان ما تلاشى الغضب الأمريكي الأوّلي من التجارب النووية الهندية في أيار/مايو 1998، وبدأ تشكيل تحالف استراتيجي جديد بين الهند وإسرائيل والولايات المتحدة. لكن الإنجازات الأكبر جاءت بعد أكثر من عقد بقليل في عهد مودي.

بين فاجبايي ومودي، كان هناك فترة تجمّد دامت عشر سنوات (2004-2014)، فاز خلالها ائتلاف بقيادة حزب المؤتمر بزعامة رئيس الوزراء مانموهان سينغ بالانتخابات مرتين متتاليتين. كان حزب المؤتمر في الماضي تحت قيادة أمثال نهرو وإنديرا غاندي يُظهر قدرًا من التعاطف والدعم الأخلاقي والسياسي الحقيقي للقضية الفلسطينية على الرغم من اعتبارات الواقعية السياسية. لكن الآن تم تعزيز العلاقات مع إسرائيل، بينما تلاشى الاهتمام الحقيقي بالقضية الفلسطينية إلى حد كبير. لم تنشأ دولة فلسطينية حقيقية، أمّا إسرائيل فكانت دولة رأسمالية قوية ومتطوّرة إلى حدٍ ما يمكن إقامة علاقات اقتصادية مربحة معها عن طريق الشركات التجارية على الجانبين. علاوة على ذلك، بجانب كونها مصدرًا للمعدات العسكرية عالية الجودة، كانت إسرائيل بمثابة قناة اتصال مع الولايات المتحدة. وأدّى توثيق العلاقات معها إلى زيادة احتمالات توثيق العلاقات بين الهند والولايات المتحدة اقتصاديًا وسياسيًا. ولم يتبقّ سوى تصريحات خطابية متناثرة حول "الحاجة إلى حلّ الدولتين" وتقديم التمويل اللازم له أيضًا.

بعد الهجوم الإرهابي الذي وقع في مومباي في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2008 على أيدي جماعتين إسلاميتين لهما قواعد في باكستان، ساعدت إسرائيل في إنشاء بنية تحتية للمراقبة في إطار نظام مراقبة مركزي متخصّص أتاح القدرة على الانتقال من المراقبة المستهدفة إلى المراقبة الجماعية (Essa 2023: 48). عند وقوع هجمات تشرين الثاني/نوفمبر 2008 وبعدها مباشرة، قامت إسرئيل -إلى جانب التواصل السياسي المنتظم على المستويات العليا- بإرسال ضبّاط استخبارات ومسعفين وفريق من الاحتياطيين وعدد قليل من المتطوعين قدّموا المشورة والدعم المادي وانتقدوا عدم كفاية الاستعدادات المسبقة للهند في التعامل مع مثل هذه التهديدات الإرهابية. ساعد تواجد الفاعلين الإسرائيليين في ذلك الظرف على تكوين إجماع واسع النطاق على أن هناك إخفاقات هندية خطيرة تتطلبّ خبرة إسرائيل الخاصة. ويقال إنّ علاقة جديدة نوعيًا وأكثر قربًا قد نشأت وقتها (Machold 2024).

بين عامي 2003 و 2013، أصبحت الهند أكبر زبون للأسلحة الإسرائيلية. في شباط/فبراير 2014، أي قبل الانتخابات العامة ببضعة أشهر عندما كان حزب المؤتمر لا يزال في السلطة، تم التوصل إلى اتفاق رسمي (لكنه دخل حيز التنفيذ بعد فوز مودي في الانتخابات في أيار/مايو من ذلك العام) لإرسال أفراد من الشرطة والأمن الهنديّين للتدرّب في إسرائيل على "مكافحة الإرهاب" و"السيطرة على الحشود" و"إدارة الحدود"، أي تلقّي دروس حول كيفية التعامل مع المشاكل داخل الهند، خاصة في المناطق التي تعاني من التمرّد في الشمال الشرقي وكشمير. وبالإضافة إلى إنكار أيّ "حق في تقرير المصير السياسي" للفلسطينيين والكشميريين، فإن الوجود الضخم للأفراد المسلحين يجعل كشمير موقعًا للاحتلال العسكري المستمر والسيطرة، تمامًا كما هو الحال في الأراضي المحتلة. مرّة أخرى، بالنسبة للفلسطينيين والمسلمين الكشميريين على حد سواء، يتم ممارسة العنف كأمر روتيني ومُبرّر قانونيًا باستخدام القوانين الأكثر استبدادية ومعاداة للديمقراطية. يتم بناء مستوطنات للهندوس في الجزء الهندي من كشمير من خلال الاستيلاء على المزيد من الأراضي لهم ولأغراض مختلفة للحكومة المركزية، والبنية التحتية لفصل الهندوس عن المسلمين تتشابه إلى حد كبير مع السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية (Essa 2022).8

لكن في عهد مودي، أدّت القرابة الأيديولوجية التي شعرت بها النزعة القومية الهندوسية مع الصهيونية إلى إعجاب أكثر وضوحًا -بل ومحاكاة- لكيفية تعامل إسرائيل مع ”العدو“ الفلسطيني في الأراضي المحتلة.

قبل أن ننتقل إلى ما يمكن وصفه بتغيير كبير (بل ونوعي في بعض النواحي) في العلاقات بين الهند وإسرائيل منذ منتصف عام 2014، نوجّه انتباهنا إلى جيران الهند الأربعة في جنوب آسيا وعلاقاتهم التاريخية والمعاصرة مع إسرائيل. وهذا أمر مهم لعدة أسباب. فالأهمية السياسية للصلة بين الهند وباكستان وإسرائيل واضحة. بالنسبة للهند التي تهيمن عليها النزعة القومية الهندوسية (هندوتفا)، فإن إسرائيل حليف مهمّ ضد عدوها الرئيسي باكستان. انفصلت بنغلاديش عن باكستان لتصبح دولة مستقلة في كانون الأول/ديسمبر 1971. ومنذ ذلك الحين، أصبح لدى بنغلاديش -مثل سريلانكا ونيبال- أسباب أكثر للخوف من طموحات الهند شبه الإمبريالية للهيمنة على المنطقة والذي يشكّل سلوكها في السياسة الخارجية. في حالة بنغلاديش، يفسّر العامل الإسلامي معارضتها الدبلوماسية والسياسية لإسرائيل وعدم ارتياحها لتعميق التحالف بين الهند وإسرائيل على المستويين السياسي والأيديولوجي. أما سريلانكا ونيبال، وهما دولتان أصغر حجمًا وأضعف قوة، فلم تبدِيان منذ نشأتهما أيّ اهتمام بالقضية الفلسطينية. وعلى عكس الهند في بداياتها، لم يكن لديهما أي حرج في تطوير علاقات أفضل مع إسرائيل، على الرغم من أن هذه العلاقات اتسمت في سريلانكا بطابع متقلب بسبب الضغوط التي تمارسها أحيانًا قوى اليسار المحلية. في نيبال، لم تأت التسويات الحكومية مع قوة يسارية داخلية إلا في الألفية الجديدة، وسرعان ما تمّ ترويض هذه القوة اليسارية. كما ترى بنغلاديش وسريلانكا ونيبال أن توثيق العلاقات مع الصين يمثل ثقلًا موازنًا مهمًا للهند، في حين أن الدولتين الأخيرتين لا تريدان -لأسباب سياسية ودبلوماسية واضحة- أن تحتكر الهند العلاقات مع إسرائيل في جنوب آسيا.

سريلانكا ونيبال وباكستان وبنغلاديش

سريلانكا

سريلانكا (المعروفة باسم سيلان حتى عام 1972 حين غيّرت اسمها) حصلت على استقلالها الرسمي في 4 شباط/فبراير 1948. وكان د س سيناناياكي، أوّل رئيس وزراء لها من الحزب الوطني المتّحد (UNP) الحاكم. في الواقع أصبحت أول دولة آسيوية تقيم علاقات مع إسرائيل. في أوائل الخمسينيات، اشترت منها أسلحة بل وفرقاطة. لم يعجب ذلك حزب الحرية السريلانكي، وهو حزب معارض أكثر يسارية توجهه اشتراكي ديمقراطي يفضل تبني موقف عدم الانحياز في السياسة الخارجية. حقّق الحزب نجاحًا انتخابيًا دوريًا لأول مرة في عام 1956 تحت قيادة س و ر د باندرانايك كرئيس للوزراء، ثم مرّة أخرى بين عاميْ 1960 و1964 تحت قيادة أرملته سيريمافو بانداراناييك، وهي أول امرأة في العالم تُنتَخب لرئاسة حكومة. كانت هي وحزب الحرية السريلانكي أكثر حرصًا على تطوير العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية، وفي مواجهة معارضة الأحزاب والجماعات الأكثر يسارية من حزبها وعدت أثناء الحملة الانتخابية في عام 1971 بإغلاق السفارة الإسرائيلية، وهو ما فعلته بعد فوزها. بحلول منتصف وأواخر السبعينيات، تزايدت مقاومة السكان التاميل للتمييز ضدهم، لا سيما في منطقة جافنا شمال البلاد، وظهرت قوة ذات طابع أكثر عسكرة هي منظمة نمور تحرير تاميل إيلام (LTTE). عاد حزب الاتحاد الوطني إلى السلطة في عام 1977، وتولى زعيمه ج ر جايواردينا منصب رئيس الوزراء لمدة عام، ثم أصبح الرئيس التنفيذي الأقوى من خلال تعديل الدستور فحكم من عام 1978 إلى عام 1989. أعاد العلاقات مع إسرائيل، ومن الدوافع الرئيسية وراء ذلك الحصول على دعمها العسكري. كانت الهند في عهد راجيف غاندي تسعى إلى تحسين علاقاتها مع إسرائيل، كما كانت تنظر إلى جنوب آسيا على أنها منطقة نفوذها. جرى الاستعاضة عن الدعم العسكري الإسرائيلي باتفاقات الهند وسريلانكا لعام 1987، حيث أرسلت الهند لأول مرة قواتها المسلحة إلى دولة أخرى للتدخل في الحرب الأهلية ضد السكان التاميل. كان الهدف من ذلك محاربة منظمة نمور تحرير تاميل إيلام التي كانت نيودلهي قد دعمتها في السابق حيث كانت حساسة تجاه مشاعر سكانها التاميل في جنوب البلاد. وبعد فشلها في إضعاف منظمة نمور تاميل إيلام، طلب الرئيس السريلانكي الجديد ر بريماداسا (1989-1993) من غاندي سحب جميع القوات، وهو ما تم في آذار/مارس 1990 (Amarasinghe 2021؛ 2023).

ومع ذلك، استمرت المواقف السياسية المتقلبة حيال إسرائيل. يمثّل المسلمون حوالي 10٪ من سكان سريلانكا، ويقيم معظمهم في الشمال الشرقي. في محاولة لكسب دعمهم السياسي وإبعادهم عن منظمة نمور تحرير تاميل إيلام -التي لم تُهزم عسكريًا إلا في عام 2009- قام بريماداسا بتعليق العلاقات مع إسرائيل في عام 1992. جرت استعادة العلاقات مرة أخرى في عام 2000، حيث كانت سريلانكا حريصة مرة أخرى على تلقي الدعم العسكري، وكانت إسرائيل على استعداد لتحدّي حظر الأسلحة الغربي الذي كان ساريًا من الثمانينيات حتى عام 2009. ومنذ ذلك الحين، لم تحدث أي اضطرابات خطيرة في هذه العلاقات الثنائية. بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم تتردد سريلانكا في مساعدة إسرائيل من خلال السماح للعمال المهاجرين في البلاد بالحلول محل الفلسطينيين الذين طُردوا من إسرائيل. أدت الاضطرابات السياسية الداخلية في السنوات الأخيرة في النهاية إلى انتفاض شعبي أطاح بالحكومة السابقة وأسفرت عن ظهور حزب القوة الشعبية الوطنية (NPP)، وهو حزب جديد يفترض أنه أكثر يسارية (وشكّل حكومة) حقق في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 أغلبية الثلثين في الانتخابات البرلمانية وانتخب رئيسًا جديدًا ذي تاريخ يساري، هو أ ك ديساناياك. أبدت هذه الحكومة الجديدة دعمًا أكثر وضوحًا لمطلب وقف إطلاق النار في غزة والدعوة إلى تقرير المصير للفلسطينيين. ومع ذلك، تستمر هجرة العمالة إلى إسرائيل، وقد تمّ مؤخّرا إبرام اتفاقيات لإرسال عمال في قطاعات محددة، وتبرّر كولومبو ذلك بأنه مفيد وأنّ الدول الأخرى تحافظ أيضًا على علاقات اقتصادية مع إسرائيل (Balachandran 2023).

باكستان

باكستان من الدول التي لم تُقم حتى الآن علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. رسمياً، لا يُفترض أن تتعامل باكستان تجاريًا مع إسرائيل، لكن هناك طريق غير مباشر عبر دول ثالثة مثل الإمارات العربية المتحدة. ومع ذلك، فإنّ هذا التجارة محدودة للغاية وتقتصر في معظم الأحوال على تصدير ملابس لإسرائيل بقيمة 37 مليون دولار أمريكي في عام 2023. في عام 2022، استوردت باكستان بشكل أساسي معدّات طبية بقيمة 39 ألف دولار أمريكي فقط (TradingEconomics.com 2025a؛ 2025b). لنقارن هذا بمستويات التجارة غير المباشرة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية أو بينها وبين الإمارات العربية المتحدة، والتي أصبحت الآن، بعد اتفاقيات أبراهام، أكثر مباشرة وتبلغ حاليًا عدة مليارات من الدولارات سنويًا. كانت جميع الحكومات في إسلام أباد متسقة في دعمها الرسمي والمادي لفلسطين. في حربي 1967 و1973، قاتل طيّارون باكستانيون مع الأردن والعراق دعمًا لفلسطين، وخلال حرب 1982 بين إسرائيل ولبنان، أرسلت البلاد متطوعين للقتال إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد كانت باكستان متسقة تمامًا في دعمها لفلسطين. وعلى عكس الهند، لا يوجد ضغط داخلي كبير يدفعها إلى تغيير موقفها. وقد أعلنَت مرارًا وتكرارًا أنها لن تنظر في توثيق علاقاتها مع إسرائيل إلا بعد قيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة" و"مستقلة" و"متصلة جغرافيًا" على حدود ما قبل عام 1967. كما رحّبت بحذر باتفاقات أوسلو ونأت بنفسها عن أيّ تأييد لاتفاقات أبراهام مؤكدةً مجدّدًا أنّ موقفها الداعم لحلّ الدولتين قبل أي مبادرات تجاه إسرائيل لم يتغيّر.

ومع ذلك، لا يعني ما سبق أنّ المصالح الفلسطينية هي الأهمّ أو أنّها تُشكل تفكير الحكومة وممارساتها، أو أنّ اعتبارات الواقعية السياسية غائبة عن صانعي القرار في الحكومة. خلال الاحتلال السوفيتي لأفغانستان (1979-1989) في إطار عمليّة ’إعصار‘ التي نظمتها الولايات المتحدة، تم ضخ أموال وأسلحة -منها القادم من إسرائيل- إلى باكستان لمساعدة "المجاهدين" في مقاومة كابول وموسكو. لكن ذلك ارتبط أساسًا بالعلاقة بين الولايات المتحدة وباكستان أكثر منه بأيّ تحسّن في العلاقات مع إسرائيل. بالطبع تريد تل أبيب إقامة علاقات دبلوماسية مع إسلام أباد، حيث صرّح نتنياهو -خلال زيارته للهند في عام 2018- أنّ بلاده لا تعتبر نفسها عدواً لباكستان التي لا ينبغي أن تتصرف تجاه إسرائيل كعدوّ.

ومع ذلك، ثلاثة عوامل تجعل من الصعب توقّع أيّ تغيير في موقف إسلام آباد في المستقبل القريب. سبق أن تمت الإشارة إلى الخطّة التي وضعتها الهند وإسرائيل في أوائل الثمانينيات لقصف كاهوتا، وما تلى ذلك من استياء باكستان عندما تعزّزت علاقات كل من الولايات المتحدة وإسرائيل بالهند. وعلى عكس الهند، يوجد دعم داخلي أقوى بكثير لفلسطين، ليس فقط من قبل الجماعات الإسلامية الدينية والسياسية، ولكن أيضًا من قِبَل عامة الناس. وهذا يَحدُّ من مجال المناورة المتاح للحكومة. حتى أنّ إسلام أباد، لمصلحتها الخاصة، تقارن من وقت لآخر الاحتلال الإسرائيلي الوحشي للفلسطينيين باحتلال الهند لمقاطعة جامو وكشمير. ومن ثمّ، فإن تخفيف انتقاداتها لما تفعله إسرائيل -خاصة بعد حرب الإبادة الجماعية المستمرة على غزة- من شأنه أن ينتقص من القضية الإنسانية التي تحاول باكستان طرحها ضد الاحتلال الهندي. أخيرًا، عدد من الدول ذات الأغلبية المسلمة التي تربطها علاقات وثيقة بباكستان -مثل تركيا وإيران- ستنزعج كثيرًا من أيّ تحول من هذا القبيل.

بنغلاديش ونيبال

حصلت بنغلاديش على استقلالها في عام 1971 وحظيت باعتراف إسرائيل على الفور. ومع ذلك، لم تبادلها بنغلاديش هذا الاعتراف، بل تستضيف سفارة فلسطينية وتدعو إلى حلّ الدولتين. ومثل غيرها من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، فإنها تُجري تجارة غير مباشرة مع إسرائيل عبر عدد متزايد من الدول الثالثة في آسيا والشرق الأوسط، ومؤخّرًا عبر أوروبا والولايات المتحدة. وتتمتع بنغلاديش بفائض تجاري جيّد مع إسرائيل، حيث بلغت صادراتها إليها (بشكل رئيسي المنسوجات والأحذية والمنتجات الجلدية) في عام 2023 ما قيمته 205 مليون دولار أمريكي، في حين بلغت وارداتها من البلاستيك والأجهزة العلاجية 148 ألف دولار أمريكي في عام 2022 (Tradingeconomics.com 2025c؛ 2025d). لكن هذا لا يشمل حقيقة وجود أسباب معقولة للاشتباه في أن بنغلاديش قد اشترت معدّات مراقبة وتلقت تدريبًا لأفراد الأمن من قبل القوات الإسرائيلية في دول ثالثة مثل المجر وتايلاند (Globaldefensecorp.com 2023). سقطت حكومة شيخة حسينة في آب\أغسطس 2024 نتيجة انتفاضة شعبية (هربت إلى الهند)، وتمّ حلّ البرلمان وتولّت السلطة حكومة مؤقتة برئاسة محمد يونس -الحائز على جائزة نوبل- وعدت بإجراء تغييرات دستورية من شأنها إصلاح النظام الانتخابي وتعميق الديمقراطية. لم يحدث أي تغيير في النمط السابق للعلاقات الثنائية مع إسرائيل.

من بين جميع دول جنوب آسيا، كانت نيبال هي الدولة التي تربطها بإسرائيل علاقات أكثر ودًا وأقل اضطرابًا. اعترفت بريطانيا بها كدولة ملكيّة مستقلّة في عام 1923. ونجحت الحركة الديمقراطية التي انطلقت عام 1951 في إجراء أول انتخابات عامة في عام 1959، وقام زعيم حزب المؤتمر النيبالي -رئيس الوزراء ب ب كويرالا- بأول زيارة إلى إسرائيل. وفي العام التالي، أصبحت نيبال أول دولة في جنوب آسيا تعترف بإسرائيل اعترافًا دبلوماسيًا كاملًا. أنشأت إسرائيل سفارتها في كاتاماندو في عام 1961، على الرغم من أنّ نيبال لم تتمكّن من الردّ بالمثل إلا بعد ذلك بوقت طويل. ومنذ ذلك الحين، وحتى عندما كان الماويون في السلطة بين عامي 2008 و2012 ظلت العلاقات الثنائية مستقرة. من المؤكد أن نيبال تردّد بانتظام الدعوة العامة للسلام في الشرق الأوسط، ولحلّ الدولتين مع وجود إسرائيل وفلسطين جنبًا إلى جنب، وتُعلن دعمها لجميع التدابير التي تعزز السلام في المنطقة. لكنها حرصت طوال هذه الفترة على عدم إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع منظمة التحرير الفلسطينية.

على عكس جيرانها، عارضت نيبال قرار الأمم المتحدة لعام 1975 الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية، وكان التعاون الاقتصادي منتظمًا وشمل بعض التدريبات العسكرية التي قدمتها إسرائيل، مع تزايد السياحة الإسرائيلية التي ساعدت نيبال على تعويض جزء من عجزها التجاري الثنائي الكبير. تصدّر نيبال بشكل كبير الصوف والتبغ والجوت والمنتجات النباتية، وتستورد سلعًا مثل المعدات الزراعية والآلات الإلكترونية. تحظى مقدّمات الرعاية النيباليّات بالترحيب في إسرائيل، لكن معظم تحويلات المهاجرين تأتي من النيباليين العاملين في الشرق الأوسط العربي، وهو ما يفسّر سبب إزعاج كاتماندو أحيانًا لتل أبيب عندما يتعلق الأمر بالتصويت مع الأغلبية على بعض قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. أدانت حكومة نيبال بشدة عملية حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عندما قُتل 10 طلاب زراعة نيباليين في كيبوتس علوميم. ومثل الهند، لا تستخدم نيبال كلمة إبادة جماعية أو وصف "إبادي" عند الحديث عن هجوم إسرائيل على غزة، ولم تنضم إلى جنوب إفريقيا في دعم تدخل محكمة العدل الدولية. عندما هاجمت إسرائيل قوات حفظ السلام التابعة لقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) في تشرين الأول/أكتوبر 2024، انضمت نيبال مع 33 دولة أخرى مساهمة بأفراد في يونيفيل في بيان مشترك أدان الهجوم في جنوب لبنان، لكنه حرص على عدم توجيه الاتهام إلى إسرائيل بالاسم. في أيار/مايو 2025، وبغض النظر عمّا تفعله إسرائيل في غزة، كانت هناك تأكيدات دبلوماسية رسمية باستمرار الدعم والتعاون الدبلوماسي والمادي بين إسرائيل ونيبال.

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

عهد مودي

بعد وصوله إلى السلطة في حزيران/يونيو 2014، لم يستغرق مودي وقتًا طويلاً ليُظهر أنه سيتعامل مع إسرائيل بشكل مختلف. لاحظوا التباين التالي: في 31 أيار/مايو 2010، هاجمت إسرائيل أسطولًا مكونًا من ستّ سفن كانت تحمل مساعدات إلى غزة من تركيا. قُتل خمسة عشر ناشطًا دوليًا وأصيب العديد غيرهم. أصدرت الحكومة، التي كان يقودها حزب المؤتمر آنذاك، بيانًا رسميًا أدانت فيه الهجوم وقالت إنه لا يوجد مبرّر لـ"مثل هذا الاستخدام العشوائي للقوة"، لكنها حرصت على عدم توجيه الاتهام إلى إسرائيل بالاسم. في تموز/يوليو 2014، وبزعم الانتقام من صواريخ حماس التي قتلت جنديًا واحدًا وستة مدنيين، شنت إسرائيل عملية الجرف الصامد- وهي عملية غزو بري وجوي استمرت 50 يومًا ودمّرت أجزاءً كبيرة من غزة (ناهيك عن الإصابات)، وقُتل 2251 فلسطينيًا بينهم 1462 مدنيًا. وعندما حاولت المعارضة في الغرفة الدنيا من البرلمان الهندي (لوك سابها) بعد أيام قليلة تمرير قرار يدين ردّ إسرائيل غير المتناسب، منع مودي أي إدانة! وفي حين كانت الهند في السابق تلتزم شكليًا بقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تدين إسرائيل، أصبحت الآن تمتنع عن التصويت في كثير من الأحيان.

في عام 2017، أصبح مودي أول رئيس وزراء هندي يزور إسرائيل رسميًا لمدة ثلاثة أيام، حيث تمت ترقية العلاقة إلى "شراكة استراتيجية". كما خرق تقليدًا راسخًا أسسه المسؤولون الهنود السابقون بامتناعه عن زيارة القيادة الفلسطينية في أراضي الضفة الغربية المحتلة. وبذلك تم توجيه رسالة متعمّدة مفادها أن القضية الفلسطينية منبتة الصلة تمامًا بالعلاقات الهندية الإسرائيلية. وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، كان هذا هو الوقت الذي أبرمت فيه حكومة مودي صفقة لشراء برنامج بيغاسوس، وهو برنامج تجسس عسكري توفره شركة إن إس أو (NSO) الإسرائيلية ويُباع فقط للحكومات. في عام 2018، اكتشف مختبر سيتيزين لاب التابع لجامعة تورنتو أنّ هذا البرنامج يُستخدم لتثبيت برامج ضارة وبرامج مراقبة في 45 دولة منها الهند. ومرة أخرى، في عام 2021، تم استخدامه بشكل غير قانوني على ما لا يقلّ عن 300 هندي، بما في ذلك نشطاء حقوق الإنسان والصحفيين المنتقدين لنظام مودي، وعلى راهول غاندي زعيم حزب المؤتمر (Shantha 2019).9 لم تنكر الحكومة الهندية هذا الشراء ولم تؤكده، مع تخلّي المحكمة العليا عن مسؤوليتها في المطالبة بإجابة واضحة.

في 10 شباط/فبراير 2018، زار مودي رام الله لمدة ثلاث ساعات والتقى محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية. هناك، تم الإعلان عن الموقف الهندي الرسمي المعتاد الداعم لدولة فلسطينية "ذات سيادة ومستقلة". ولكن، ولأول مرة، حُذفت من التصريحات الرسمية أيّة إشارة إلى دولة فلسطينية "موحدة" وإلى القدس الشرقية كعاصمة لها. كان المعنى واضحًا. ستقبل نيودلهي بسهولة أي حلّ مستقبلي لدولتين على غرار البانتوستان بأيّ شروط تفضّلها إسرائيل، إذا ما حدث ذلك. لم تعد الهند منزعجة أخلاقيًا أو سياسيًا من العنف الإسرائيلي ضد المدنيين، سواء كان ذلك عبر الحصار الوحشي لغزة أو الطريقة التي تتوسع بها المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية. رحبت نيودلهي باتفاقات أبراهام لعام 2020 باعتبارها خطوة إيجابية نحو مزيد من تطبيع العلاقات في الشرق الأوسط، وفي 14 تموز/يوليو 2022، تم إنشاء مجموعة الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، المعروفة أيضًا باسم I2U2، رسميًا لأغراض اقتصادية مشتركة. وبعد ساعات، تمّ بيع ميناء حيفا (الأهم في إسرائيل) إلى شركة آداني بورتس لتشغيله بالاشتراك مع شركة غادور الإسرائيلية.10 تم إطلاق الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا في قمة مجموعة العشرين في نيودلهي في 9 أيلول/سبتمبر 2023، من خلال توقيع مذكرة تفاهم بين الهند والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي. لكنه لم يدخل حيز التنفيذ بعد، وقد تأخر تطويره بسبب الحرب التي اندلعت لاحقًا على غزة.

بعد هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تحدّثت حكومة مودي ببلاغة عن ذلك "الرعب" مؤكدة دعمها الكامل لإسرائيل. مع استمرار الإبادة الجماعية، ستعبّر نيودلهي من حين لآخر -بلغة غامضة وضعيفة- عن ترحيبها بوقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية. على المستوى المادي، قامت الشركات الهندية -بموافقة كاملة من الحكومة- بتوفير 900 طائرة بدون طيار من طراز هيرميس وذخائر للجيش الاسرائيلي، بالإضافة إلى إرسال آلاف العمال المهاجرين ليحلّوا محلّ العمالة الفلسطينية، خاصة في قطاع البناء (Ramachandran 2024؛ Marsi 2024؛ Indian Express 2025).

سعت الحكومات السابقة غير التابعة لحزب بهاراتيا جاناتا منذ نهاية الحرب الباردة إلى تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، واعتمدت على الجالية الهندية هناك للمساعدة في هذا الجهد. علاوة على ذلك، يُنظر إلى إسرائيل في هذا الصدد على أنها قناة تواصل، نظرًا للعلاقات الوثيقة التي تربطها بالولايات المتحدة منذ فترة طويلة. لكن حكومة مودي استثمرت المزيد من الجهد والموارد من خلال منظمات المجتمع المدني القومية الهندوسية التابعة لها والتي لها فروع في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بهدف تكوين قاعدة دعم أوسع هناك. كان النمو النسبي وتأثير جماعات الضغط القومية الهندوسية أكبر في الولايات المتحدة. هنا، تنظر العديد من هذه الجماعات -بما في ذلك لجنة العمل السياسي الأمريكية الهندية (التي يُفترض أنها مدعومة من الحزبين الرئيسيين) والمؤسسة الهندوسية الأمريكية- إلى لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) على أنها نموذج يحتذى به. وقد تطورت العلاقات بين هذه الجماعات من جانب ومنظمة أيباك واللجنة اليهودية الأمريكية من جانب آخر بدعم حكومة مودي وإسرائيل تحت المظلة السياسية للكونغرس الأمريكي الذي أصبح بمرور الوقت أكثر محافظة ومعاداة للإسلام (Cockburn 2024).11

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

ماذا الآن؟

مَثّل انتهاء الحرب الباردة المفاجئ نقطة تحوّل عالمية كبرى مع انهيار الكتلة الشيوعية وتحوّلها إلى دول رأسمالية ذات درجات متفاوتة من سيطرة الدولة والتوجيه الاقتصادي. منذ التسعينيات وحتى الوقت الحاضر، شهدنا المزيد والمزيد من الحكومات في جميع أنحاء العالم تتجه نحو التوافق مع إسرائيل، حتى في الوقت الذي خانت فيه تل أبيب باستمرار -نصًا وروحًا- ما كان من المفترض أن تفعله بموجب اتفاقيات أوسلو والاتفاقيات اللاحقة. تحوّلت غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، وتوسّعت المستوطنات في الضفة الغربية، وتحولت قيادة فتح والهيكل الأمني للسلطة الفلسطينية إلى مقاول من الباطن للاحتلال غير القانوني، وأصبحت إعادة الإنتاج الاقتصادي للسلطة الفلسطينية معتمدة على سخاء الغرب.

حتى الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، وبالتأكيد دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث استمرت الأنظمة الديكتاتورية والملكية بشكل أو بآخر لفترة أطول من أي مكان آخر، لم تفعل الكثير لتعكير صفو "الإدارة" الإسرائيلية - وهي كناية قبيحة عن الطريقة الوحشية التي حافظت بها على سيطرتها وتوسعها في الأراضي المحتلة. إلى جانب "محور المقاومة" بقيادة إيران، كان الاتجاه المعاكس الآخر لهذا الانجراف المستمر من قبل الحكومات نحو مزيد من التوافق مع إسرائيل هو صعود دعم المجتمع المدني للقضية الفلسطينية، خاصة في المملكة المتحدة وأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وكذلك في أجزاء من أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وإفريقيا، وخاصة جنوب إفريقيا التي تغلّبت على ماضيها العنصري.

ما هي القصة في الهند إذن؟ كما ذكرنا في بداية هذا النص، كانت احتجاجات المجتمع المدني في الهند تضامنًا مع الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية أضعف نسبيًا من تلك التي شهدتها دول أخرى تُعتبر ديمقراطية. لكي نتحرك في اتجاه أكثر إيجابية ونرسم طريقًا للأمام، نحتاج إلى فهم أسباب ذلك حتى نتمكن من تغييره بشكل أفضل. جزء من القصة هو القمع والإجراءات القانونية التي تتخذها الحكومة القومية الهندوسية ومجموعات البلطجة التابعة لها التي تقوم بتصيّد اجتماعي بغيض، وتسجّل قضايا كاذبة بالتواطؤ مع الشرطة والمحاكم الدنيا، بل وتقوم في بعض الأحيان بالاعتداء جسديًا على مؤيّدي فلسطين الذين تعتبرهم "معادين للوطن" (Gungor 2024). الجزء الآخر من القصة يكمن في الطابع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الهندي.

على الرغم من أنّ عدد سكان الهند الحالي يبلغ حوالي 1.4 مليار نسمة، فإن عدد السكّان العاملين يبلغ حوالي 640 مليون نسمة، يعمل أكثر من نصفهم في القطاعات الأوّلية المتمثلة في الزراعة وصيد الأسماك والتعدين. يعمل حوالي 7% فقط في القطاع النظامي ويحصلون على رواتب منتظمة وإجازات مدفوعة الأجر ومزايا الضمان الاجتماعي والأمن الوظيفي. أما البقية، فهم يعملون في القطاع غير النظامي دون أيّ شكل من الحماية التي يوفرها القطاع النظامي، ويتقاضون أجورًا أقل ولا يتمتعون بالحق الرسمي في تكوين نقابات (Tehelka 2022). وفي الواقع، لا ينتمي إلى النقابات العمالية سوى ما يقدّر بنحو ثلاثة في المائة من القوى العاملة، وتنتسب الغالبية العظمى منهم إلى اتحادات أكبر تخضع لسيطرة أحزاب سياسية مختلفة وتلتزم بخطوطها السياسية. أكبر اتحاد من هذا النوع اليوم يخضع لحزب بهاراتيا جاناتا، ويليه حزب المؤتمر، ثم تأتي الاتحادات الأصغر التابعة للأحزاب اليسارية والأحزاب الجهوية الأخرى. ما يعنيه هذا منذ فترة طويلة هو أن الغالبية العظمى من الجمهور كانت منشغلة بقضايا المعيشة الأساسية والمخاوف المتعلقة بالحريات والحقوق الديمقراطية.

ومع ذلك، فإن هذا هو السبب الذي أدى إلى ظهور حركات اجتماعية مستقلة عن الأحزاب السياسية. وقد ركزت هذه الحركات على قضايا محددة تتعلق بسياسات التنمية التي تسببت في المعاناة الاقتصادية، وعلى انتهاكات حريات معينة، وعلى أشكال التمييز الاجتماعي والجهوي. بالنسبة للجمهور العام، تُعتبر قضايا السياسة الخارجية بعيدة عن الاهتمامات والمشاكل المحلية الأكثر أهمية. لذلك، فإنهم في الغالب يتفقون مع ما تقوله المنظمات التي يشعرون بالانتماء إليها، سواء كانت أحزابًا سياسية أو نقابات عمالية أو هيئات اجتماعية دينية يتعاطفون معها وتوفّر لهم الدعم العاطفي وبعض الدعم المادي.

المسألة بسيطة.

حتى وقت قريب، كانت الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين والمظاهرات واسعة النطاق تقام على مدى سنوات بشكل متقطع في المدن الرئيسية مثل دلهي وكلكتا ومومباي وحيدر أباد، وتمتد أحيانًا إلى مراكز حضرية أخرى. يجري تنظيم هذه التعبئة دائمًا من قبل الأحزاب اليسارية البرلمانية الرئيسية التي تعتمد على نقاباتها العمالية، وبشكل أكبر على أجنحتها الطلابية، لتحقيق مشاركة معقولة. كما أن الأحزاب السياسية الإسلامية والمنظمات الدينية والهيئات الطلابية الإسلامية مستعدة في بعض الأحيان للتعبير عن تضامنها العلني، على الرغم من أنها تنظر إلى القضية الفلسطينية من منظور ديني أكثر منه إنساني عالمي.12 وليس من المستغرب أن يكون وادي كشمير أحد الأماكن التي تشعر فيها الغالبية المسلمة بتعاطف خاص مع محنة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، حيث تتواجد هناك منذ عقود أعداد كبيرة من مسلّحي الجيش الهندي من شتّى الأنواع. بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بوقت قصير، وفي مواجهة الهجوم الإسرائيلي، أقيمت صلوات جماعية واحتجاجات في عدة مساجد في كشمير (Zargar 2023). لكن السلطات الرسمية فرضت بعد ذلك قيودًا لمنع جميع أشكال التضامن مع فلسطين في كشمير، بما في ذلك تحذير رجال الدين المسلمين من ذكر فلسطين في خطبهم. على الرغم من ذلك، اندلعت تحركات تضامنية كان آخرها في آذار/مارس وحزيران/يونيو 2025 (Yusuf 2025؛ The Wire 2025).13

حتى وقت قريب، لم تكن الأنشطة التضامنية المؤيّدة للفلسطينيين التي تنظّمها المنظمات العلمانية والمستقلة عن السيطرة السياسية من أعلى بارزة أو ملحوظة، على عكس الحال في الغرب. ففي الديمقراطيات الليبرالية الغربية، يُلاحظ أنّ الطبقة الوسطى -الأكثر راحة (من حيث الدخل) والأقل قلقًا بشأن احتياجات المعيشة الأساسية- هي الأكثر انشغالًا بقضايا السياسة الخارجية والمواقف التي تتخذها حكوماتها. المشكلة مع ما يسمّى بالطبقة الوسطى الهندية التي نمَت على مدى العقدين الماضيين هي أنّ توجّهها السياسي كان في المتوسط أكثر رجعية منه تقدمية، ومن هنا جاء الدعم المتزايد لحزب بهاراتيا جاناتا والنزعة القومية الهندوسية بشكل عام، ليس فقط بين النخبة ولكن أيضًا ضمن الشرائح العليا والمتوسطة والدنيا لما يسمّى بالطبقة الوسطى.

ومع ذلك، توجد قطاعات تقدمية داخل هذه الطبقة الوسطى، وقد ازداد عددها وأصبحت أكثر وعيًا بما يحدث في العالم وفلسطين على وجه الخصوص بفضل وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه الفئة -وخاصة منها الشباب- هي التي وسّعت الخزان الاجتماعي والسياسي للأحزاب اليسارية المنظمة والجماعات والمجموعات الصغيرة (التي يوجد منها الكثير نظرًا لحجم الهند الذي يقارب القارة) من أجل نُصرة مجموعة من القضايا التقدمية والالتزام بنضالات الفئات الأكثر حرمانًا اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا. توجد الآن مجموعة متنوعة من جماعات التضامن مع فلسطين التي ظهرت في جميع أنحاء البلاد.

بعض هذه المجموعات مرتبط بهيئات ثقافية أو سياسية أو دينية (إسلامية) قائمة. والبعض الآخر عبارة عن مجموعات تضامن أكثر استقلالًا، وهي تقدمية وبالتالي أكثر انتقادًا بشكل عام للنزعة القومية الهندوسية وحكومة مودي. تنضمّ هذه المجموعات إلى مختلف الأنشطة التي تنظمها الأحزاب اليسارية الكبرى وأجنحتها النسائية والطلابية والنقابية والتي تحشد أعدادًا تتراوح بين عدة مئات وعدة آلاف.14 كما أنها تنفذ أنشطتها بشكل منفصل، إما بشكل فردي أو أحيانًا بالتعاون مع مجموعات أخرى مماثلة. وقد قدّمت هذه المجموعات معلومات وتحليلات ومقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي باللغتين الإنجليزية والهندية واللغات المحلّية. كما قامت بأنشطة صغيرة في الشوارع لتوزيع منشورات، عادة في الولايات التي لا يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا. ولكن حتى في تلك الولايات غالبًا ما تكون هذه الاحتجاجات مفاجئة وسريعة في سوق مزدحم أو تقاطع معيّن، ثم تختفي بسرعة قبل وصول الشرطة. بين أيار/مايو ومنتصف تموز/يوليو من هذا العام، واجهت مطاعم ماكدونالدز ودومينوز بيتزا احتجاجات في إطار حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS). وقد وقعت هذه الاحتجاجات في مدن مختلفة مثل حيدر أباد وبونا ودلهي ومومباي وشانديغار وغيرها. يجب أيضًا ذكر تشكيل منظمة (الراقصون الهنود من أجل أطفال غزة)، التي تجمع من خلال عروضها الأموال للمساعدات الإنسانية وتتواصل مع مركز الأميرة بسمة في غزة للأطفال ذوي الإعاقة. كل هذا جديد تمامًا ويعبّر عن كيفية استحواذ فلسطين على خيال عدد متزايد من الهنود، خاصة بين الشباب.15 لا تزال المعركة ضد الدولة الهندية صعبة، ولكن يجري إحراز تقدّم.

ما الطريق إلى الأمام إذن؟ تقول جميع الحكومات تقريبًا في مواقفها الرسمية إنها تؤيّد حلّ الدولتين لإنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. لطالما كان هذا قناعًا مناسبًا لتغطية إخفاقات تلك الحكومات، بل وعدم اهتمامها وعدم رغبتها في القيام بأيّ شيء ذي مغزى -سواء بشكل فردي أو جماعي- للمساعدة في تحقيق ذلك.

بغض النظر عن غزة، فإن توسّع المستوطنات الإسرائيلية والتدخلات المسلحة في الضفة الغربية، غالباً بإذن من حركة فتح وأحياناً بالتواطؤ معها، قد دمّرت فعليًا أيّ فرصة للفلسطينيين للحصول على ما هو أفضل من قطعة أرض مبتورة وفقيرة الموارد (بانتوستان) إن حصلوا على ذلك أصلًا! إن القضاء على جميع المستوطنات اليهودية غير القانونية في ما يسمّونه يهودا والسامرة يعادل مطالبة إسرائيل بالمخاطرة بما لا يقلّ عن حرب أهلية. في الواقع، كان هجوم حماس في عام 2023 ذريعة للدعوة علنًا إلى ما يعتبره الكثيرون في اليمين السياسي واليمين المتطرف -وحتى بعض الوسطيين في إسرائيل- "الحل النهائي"، والسعي بشكل عملي وممنهج لتحقيقه.

من المؤكد أنّها عملية طويلة الأمد، لكنها قد بدأت الآن. في غزة، تتضمن هذه العملية الاستيلاء على معظم أو كل شمال قطاع غزة. وهذا يعني تشجيع المزيد من الهجرة الجماعية من خلال التجويع وسوء التغذية والأمراض والهجمات العسكرية والمزيد من التهجير إلى مناطق معزولة أسوأ من السجن في أجزاء محدودة من الجنوب. والهدف هو جعل الحياة غير محتملة بالنسبة للغالبية، إن لم يكن للجميع.

وتتمثل الخطة الأخيرة في إبعاد مؤسسات الأمم المتحدة وتوزيع الحد الأدنى من المساعدات في عدد قليل من نقاط التوزيع. ولا تهدف هذه الخطة على الإطلاق إلى تلبية الاحتياجات الأساسية لسكان غزة من الغذاء والصحة والمأوى بشكل سليم وكامل، بل إلى تهدئة روع حلفاء إسرائيل الذين يمكنهم عندئذ -بـ"ضمير أكثر راحة" التزام الصمت بينما تستمرّ عملية التطهير العرقي. وبهذه الطريقة، سيتم تهيئة الظروف لكي يختار المزيد والمزيد من الفلسطينيين في غزة "الانتقال الطوعي" إلى بلدان أخرى.

وهنا تلعب إدارة ترامب دورها في الاتصال ببلدان مختلفة -السودان والصومال وأرض الصومال (المنفصلة من جانب واحد) وليبيا وإندونيسيا على ما يبدو- ربما تكون قد تلقت عروضًا مالية أو عروضًا من نوع آخر. وفي الضفة الغربية، سيتم توسيع المستوطنات غير القانونية وجعل السيطرة على الفلسطينيين "قابلة للإدارة" من خلال مزيج أقوى من القمع والرشوة لقادتهم. وتُطرَح أيضًا نسخة خاصة من "الخيار الأردني" للنظر فيها من قِبل تل أبيب وواشنطن. وهذا يعني تطبيق استراتيجية مماثلة من العصا والجزرة على حُكّام الأردن لتحويله -بشكل واسع أو كُلّي- إلى وطن للفلسطينيين، أي إعادة توطين فلسطينيّي الضفة الغربية هناك. ومع ذلك، فيما يتعلق بغزة والضفة الغربية على حد سواء، لا تزال الفجوة كبيرة بين النوايا والإنجازات فيما يتعلق بهذه الطموحات الإسرائيلي

التركيز على نظام الفصل العنصري

لإبطال هذا المشروع الإسرائيلي تمامًا، فإن السؤال الأساسي هو: كيف يمكن تغيير العلاقة السياسية بين القوى والسلطة لصالح النضال الفلسطيني وضد إسرائيل؟ في البداية، لا ينبغي التركيز على الهدف النهائي -سواء كان حلّ الدولتين أو حلّ الدولة الواحدة- الذي يجب أن يُترك للفلسطينيين ليقرّروا بشأنه. ومع ذلك، يجب أن تركّز الضغوط السياسية على طبيعة إسرائيل باعتبارها الدولة الاستعمارية الوحيدة في العالم التي تمارس الفصل العنصري. تُنكر إسرائيل المساواة في الحقوق على غير اليهود والفلسطينيين داخل إسرائيل. وتُنكر -حتى بصفتها محتلاً غير شرعي- الحقوق التي يمنحها القانون الدولي للواقعين تحت الاحتلال. كما تُنكر حق العودة لعائلات وأحفاد الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم قسرًا في الماضي، والذي التزمت رسميًا بقبوله كشرط لعضويتها في الأمم المتحدة. يصبح خطاب المساواة والحقوق والعدالة والديمقراطية وسيلة لتوحيد ثلاثة مجالات مهمة من النضال. وفي حالة الهند، فإن التركيز على الفصل العنصري يجذب قاعدة أوسع.

التركيز على الطبيعة الاستعمارية والاستيطانية لإسرائيل يفتح الباب أيضًا للحديث عن الفلسطينيين الذين يُعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية داخل إسرائيل، وعن الشتات الفلسطيني الذي أصبح مصدرًا خارجيًا مهمًا للدعم نظرًا لتأثيره المتزايد على الرأي العام والحكومات، لا سيما في الغرب. كما أنّ النضال من أجل الحقوق الديمقراطية يسمح بأن يشمل النقاش الدول العربية المجاورة، والتي لا تزال تعاني في معظمها من أنظمة دكتاتورية من نوع أو آخر. هناك علاقة تبادلية وتفاعلية بين المكاسب التقدمية والمقاومة الناجحة، سواء حدثت في الأراضي المحتلة أو في العالم العربي.

الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لديها أسباب أكثر من إسرائيل نفسها للخوف من هذه التطورات. فإذا سقطت إحدى هذه الديكتاتوريات وحلّت محلها بنية ديمقراطية مستقرة ودائمة، فإن الصورة الإقليمية بل والعالمية بأسرها ستتغير نحو الأفضل. وسيعطي ذلك دفعة قوية للنضال الفلسطيني، وسيكون له تأثير حقيقي على الديكتاتوريات الأخرى، كما سيجبر القوى الخارجية الكبرى على إعادة تقييم أنماط التحالفات القائمة وطريقة التفكير المؤطّرة لها. لم يظهر بعد نظام ديمقراطي مستقر في هذه المنطقة، ولكن يمكننا أن نكون واثقين من أنّ الموجتيْن الأولى والثانية من الانتفاضات العربية (أوائل 2010 و2018-2024) ستُتْبَعان بموجة ثالثة، مع احتمال تحقيق التغيير المنشود هذه المرّة.

لا يزال الشعار المأثور القائل إن الطريق إلى القدس (بمعنى التحرير والعدالة لفلسطين) قد يمرّ عبر القاهرة وعمّان يحمل الكثير من الحقيقة. أما بالنسبة لتوحيد الأهداف والممارسات بين الفصائل الفلسطينية المختلفة وزيادة المساءلة الديمقراطية للقيادات أمام الجمهور الفلسطيني داخل وخارج الأراضي المحتلة، فلنأمل أن يتمّ الوفاء بالوعد الذي قُطع في آذار/مارس 2025 بإجراء انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني ولرئاسة السلطة الفلسطينية. علاوةً على ذلك، نأمل أن يتم عقد المجلس الوطني الفلسطيني (البرلمان العالمي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو الهيئة الجامعة لجميع الفصائل السياسية الفلسطينية ويضم أكثر من 700 ممثل) المنعقد آخر مرة في عام 2018، والذي ينتخب المجلس التنفيذي لمنظمة التحرير الفلسطينية. لا يستحقّ الشعب الفلسطيني أقلّ من ذلك.16

بغض النظر عن متى وكيف سيحدث هذا التحول الاستراتيجي، فإن الطريق لتعزيز العمل التضامني في الهند واضح. إسرائيل هي الدولة الاستعمارية الوحيدة المتبقية في العالم اليوم التي تمارس الفصل العنصري. جميع الأحزاب في الهند، بما في ذلك حزب جان سانغ سلف حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي، عارضت أيضًا الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ودعمت موقف جميع الحكومات الهندية التي فرضت حظرًا دبلوماسيًا وتجاريًا وثقافيًا ورياضيًا كاملًا عليها. هذا تاريخ يمكن، بل وينبغي، استخدامه الآن ضد الحكومة الحالية ومجموعة المنظمات الكثيرة المتبنّية للقومية الهندوسية. ومن المفاجئ أن الأحزاب اليسارية الهندية الرئيسية لم تستغل هذه الحقيقة بشكل أكبر.17 فهذه الأحزاب كانت في بعض الأحيان في طليعة تنظيم الاحتجاجات العامة من أجل فلسطين نظرًا لحجمها ومواردها الأكبر نسبيًا مقارنةً بالجماعات اليسارية الأصغر. لكنها لم تكن مستعدة بعد، على الرغم من الإبادة الجماعية المستمرة، للدعوة إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين الهند وإسرائيل العنصرية وفرض حظر على الأسلحة وعقوبات أخرى، بما في ذلك الدعوة إلى عودة جميع العمّال المهاجرين الهنود منها.

بالطبع، لن تقوم الحكومة الهندية الحالية بذلك، ولن تنضم إلى الأحزاب اليسارية في هذه الدعوى الأحزاب الأخرى المعارضة لحزب بهاراتيا جاناتا. لكن هذا موقف يجب اتخاذه الآن كجزء من الجهود الرامية إلى كسب المزيد من قلوب وعقول الجمهور، والضغط على نيودلهي للتراجع عن بعض خطواتها، وخلق جاذبية أوسع وأنصار أكثر لسياسات اليسار على الصعيد المحلي.

من الواضح أنه توجد أوجه تشابه جوهرية بين هذه الحكومة التي تستلهم القومية الهندوسية (الهندوتفا) وإسرائيل الصهيونية. إسرائيل دولة فصل عنصري، وليست ديمقراطية أو "إثنوقراطية".3 الهند في عهد مودي لم تصبح بعد دولة فصل عنصري، لكنها في طريقها إلى ذلك (Vanaik 2022). لكن وضع معظم اليهود في إسرائيل والمستوطنات يختلف كثيرًا عن وضع غالبية الهنود. فهم ليسوا قريبين بأي حال من الأحوال من الفقر المدقع أو انعدام الأمن المادي الذي تعاني منه غالبية الهندوس. يوجد في الهند نظام الطبقات الإثنيّة الخبيث الذي يؤثر في الغالب على الهندوس، لكن ليس عليهم وحدهم. هناك عنف يومي وفساد روتيني في الهند أكثر كثيرًا، كما أن السلطة الطبقية الإثنيّة تقوّض الحقوق الديمقراطية وتتلاعب بالقانون ضد مصالح الفقراء، أكثر ممّا هو الحال بالنسبة لليهود في إسرائيل على الرغم من التمييز العنصري وعلاقات القوة غير المتكافئة فيما بينهم.

بالنسبة للمنظمات والحركات التي ركزت بشكل خاص على تعزيز التضامن مع فلسطين، فإن الدرس واضح. عليها أن تنضم إلى القوى الأخرى التي تقاوم النزعة القومية الهندوسية على الجبهات السياسية والديمقراطية والاقتصادية والثقافية. أي أنه لكي تنجح في تعزيز القضية الفلسطينية في الهند، لا بد من بذل جهود أكبر من مجرّد التركيز على التضامن. هذه هي الطريقة المناسبة لخلق مجال أوسع للتعاطف والدعم الإنساني والمؤسسي للقضية الفلسطينية.

ماذا يعني هذا النهج من الناحية العملية؟ هناك مجموعة من المنظمات التي تشارك في أنشطة للدفاع عن الحريات المدنية وظروف معيشة الناس. ومن بين هذه المنظمات هيئات تحاول العمل على مستوى إقليمي ودولي، مثل اتحاد الشعوب للحريات المدنية، الذي تناول الآن قضية الإبادة الجماعية الإسرائيلية. ويوجد أيضًا التحالف الوطني للحركات الشعبية، وهو شبكة عمرها ثلاثة عقود وتضمّ مختلف الحركات الشعبية والتقدمية.

رغم أسف وغضب الحكومة الهندية، أكدت لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري مرارًا وتكرارًا أنّ نظام الطبقات الإثنيّة يندرج تحت الاتفاقية المعنية بالعنصرية لأنه شكل مؤسّسي من أشكال التمييز على أساس الأصل والمهنة. وبالرغم من أن الدستور الهندي يحظر "النبذ"، فإنه لا يحظر نظام الطبقات الإثنية نفسه. وهنا مرة أخرى، يمكن أن يتماشى العمل التضامني من أجل فلسطين ليس فقط مع القوى التي تكافح معاداة الإسلام، بل أيضاً مع الداليت والطوائف الدنيا الأخرى والمجموعات التي تعارض نظام الطبقات الإثنية نفسه. ولا ينبغي أن ننسى أن سياسات الهند النيوليبرالية في مجال الزراعة والتعدين تؤدي إلى تهجير الفلاحين المتوسطين والصغار في سعيها نحو الزراعة الرأسمالية، وكذلك السكان الأصليين في حزام الغابات المركزي وفي الشمال الشرقي.

من المرجح أن يؤدي ما تقدّمه اسرائيل من تعاون تكنولوجي في مجال الزراعة وخبرتها العسكرية -في ظل العلاقات الطبقية القائمة في الهند -إلى تعزيز عملية الخصخصة هذه، إذ يتمّ استخدام مهاراتها ومعداتها العسكرية وأنظمتها لمراقبة الإنترنت للتغلب على معارضي هذا التهجير القسري. وهذا سبب إضافي للاعتراف بأنماط التشابه التي يواجهها الكثير من الهنود والفلسطينيين. يجب بناء أشكال التضامن الجماعية هذه في الداخل، وذلك قد يعطي وزنًا أكبر للجهود الجارية للترابط العابر للحدود مع باقي مجموعات وشبكات التضامن مع فلسطين بغاية تبادل المعلومات وصياغة بيانات وبرامج عمل مشتركة.

يجب القيام بالكثير، وعلينا أن نبدأ في ذلك!