نحاول في هذا القسم تقديم قراءة تحليلية للتحولات في النفاذ للموارد والسياسات الزراعية في دولة ما بعد الاستعمار وواقع القطاع الزراعي والمجتمعات الريفية والموارد الطبيعية في بلدان المنطقة. يمكّننا ذلك من فهم تحولات الاقتصاد الزراعي والسياسات الزراعية في دول المنطقة وتحولات نموذج التنمية المهيمن. لا نقدم هنا مقارنة تفصيلية، ولكن قراءة متقاطعة لبعض القرارات والسياسات المركزية التي أحدثت نقلات نوعية في بنية السياسات الزراعية بدول شمال أفريقيا.
2.1 النفاذ للأراضي والمياه في دولة ما بعد الاستعمار
كانت المسألة الزراعية والنقاشات حول المستقبل الاقتصادي والاجتماعي حاضرة اثناء النضال ضد الاستعمار وفي أعقاب تحقيق التحرّر الوطني.16مع نهاية الحقبة الاستعمارية اتخذت الدول المختلفة مسارات متعددة لإدارة مواردها الزراعية وميراثها الاستعماري17. ومثلت المسألة الزراعية الموروثة عن الاستعمار لدى اغلب القوى الوطنية موضوعا سياسيا حاسما مع ميلاد دول ما بعد الاستعمار. لذلك شهدت السنوات 1950-1970 تحولات حاسمة في مسار السياسات الزراعية وواقع المجتمعات الريفية في بلدان شمال أفريقيا حيث طبقت كل من الجزائر ومصر وتونس والمغرب نماذج متعددة من الاصلاح الزراعي.
في الجزائر اعتمدت جبهة التحرير الوطني الإصلاحات الزراعية المستندة إلى التسيير الذاتي والثورة الزراعية المطبقة غداة الاستقلال (1962). عززت هذه السياسات التنمية الريفية وسهلت النفاذ للأراضي لصغار الفلاحين والفلاحين دون أرض، علاوة على تقديم الدعم الاجتماعي والتقني لهم18 كذلك أعيد توزيع 250 ألف هكتار على قدماء المجاهدين من خلال تجميعهم في 250 تعاونية فلاحية انتاجية. وُزِّعت أراضي المستعمرين على 2200 مزرعة وكان معظمها كبير بمتوسط 1000 هكتار وباجمالي مساحة 2.5 مليون هكتار.19 وخلال السبعينيات، أُمّمت ممتلكات الأراضي التي لم يزرعها أصحابها، وقُيّدت حيازات الأراضي الكبيرة20.20 في المغرب احتلت المسألة الزراعية مكانة أساسية في الإدارة السياسية للمجتمع. كان هاجس التحديث الزراعي حاضرا منذ الاستقلال، وفي عام 1962 تأسس المعهد الوطني للبحث الزراعي بهدف تحديث القطاع الفلاحي وإعداد فلاحة ناجعة مرتكزة على الابتكار والتجديد. تحت ضغط النقاشات التي طرحتها نقابة الاتحاد المغربي للشغل وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال في البرلمان، أقرت الحكومة قوانين الاصلاح الزراعي في عام 1963 لاسترجاع اراضي المستعمرين على مرحلتين تنتهيان عام 1973. وفي عام 1969 أُقٍرّ ميثاق الاستثمارات الفلاحية، وفي عام 1972 القانون المتعلق بمنح الفلاحين أراضي فلاحية من ملك الدولة الخاص، وبعده القانون المتعلق بالتعاونيات الفلاحية المؤسَّسة بين الفلاحين الممنوحة لهم القطع الأرضية المحدثة في العقارات الجماعية القديمة. وقد مثّل القطاع الاستعماري في المغرب أكثر من مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة21. قام النظام الملكي بإعادة توزيع الأراضي التي كانت بحوزة الاستعمار الفرنسي على النخب الريفية لتأمين سلطته وشراء ولاءاتها للمخزن.22 كما استثمرت الدولة بشكل أساسي في بناء السدود ومشاريع ريّ واسعة النطاق وتنمية طبقة جديدة موالية من المزارعين المتوسطين. ومع ذلك ظلّ نظام التحكم في الأراضي تحت سيطرة الدولة ويُستخدم كأداة لضمان الولاءات وخفض توتر أو احتجاج المجموعات التي لا تملك أراضي23.
في تونس بعد ثلاثة سنوات من الاستقلال، وعبر قانون 48 بتاريخ 7 مايو 1959، استحوذت الدولة على العقارات الفلاحية المهمَلة أو غير المستغلة والأحباس وشمل هذا القرار الاراضي المشاع وقُدّرت المساحة بحوالي 500 ألف هكتار. وفي 12 مايو 1964 صدر قانون تأميم الاراضي الاستعمارية وقُدرت المساحة بحوالي 300 ألف هكتار. قبل نفاذ هذا القانون استطاع بعض الأعيان المحليين وبعض التجار وأصحاب المهن الحرة والأعضاء النافذين في حزب الدستور (الحاكم) من شراء جزء من الأراضي الاستعمارية.24 نتيجة لهذه العملية تكوّن لدى الدولة التونسية بنهاية الستينيّات ملكية عقارية زراعية تقدر بحوالي 800 ألف هكتار بما يقارب 10% من مساحة الاراضي الزراعية بتونس25 . ساهمت هذه الاراضي في تدشين التجربة الزراعية التعاونية (التعاضدية) بتونس والتي لم تستمر كثيرا، اذ تفككت عام 1969، أي بعد ثماني سنوات من انطلاقها. بعد ذلك بدأت تونس في التحول نحو المسار الليبرالي بشكل مبكر بخصخصة الاراضي الجماعية عبر قانون 14 يناير 1971، وقد استفادت القيادات المحلية والمتنفّذين من هذا التشريع26
وفي مصر يحتل الإصلاح الزراعي مكانة مركزية في قراءة الحقبة الأولى لنظام يوليو 1952. قام الإصلاح الزراعي بإعادة توزيع حوالي 343 ألف هكتار في الفترة بين 1952 و1970 أي نحو 12.5% من الأراضي الزراعية، وقد وُزِّعت على 343 ألف أسرة تضم نحو 1.7 مليون فرد، أي نحو 9% من سكان الريف في تلك الفترة 27 . ويمكن تلخيص الوضع بعد نهاية الحقبة الناصرية بأنّ تغيرات مهمة طرأت على الخريطة الطبقية والاجتماعية في القرى منذ سنة 1952.حيث فقد الكثير من كبار الملاك العقاريين والنافذين سياسيًّا جزءًا كبيرًا من أراضيهم بينما زادت المساحة المملوكة للفلاحين الصغار والمتوسطين وتحقق الأمان الإيجاري للمستأجرين وتحسنت أوضاع الفلاحين دون أرض وعمال الزراعة بشكل طفيف28. ساهمت أدوات "الثورة الخضراء" التي تبنتها تلك الدول والتي تمثلت في استخدام الميكنة الزراعية والاعتماد على الاسمدة الكيماوية والمبيدات الحيوية والاصناف الهجينة من البذور في زيادة الانتاج الزراعي.
رغم تعدد اشكال ادارة الاراضي وتحقيق قدر من التنمية الزراعية الا ان النماذج التنموية التي اتخذتها دول شمال أفريقيا خلال العقدين الأولين تقريبًا بعد الاستقلال اتسمت بتمركزها حول تحديث القطاع الزراعي والحفاظ على المزارع الكبيرة سواء عبر ادارة الدولة أو عبر التعاونيات، التي كانت شديدة المركزية والرقابة. وقد تبنت هذه الدول بدرجات مختلفة سياسات تقدمية و/أو رأسمالية الدولة و/أو سياسات الثورة الخضراء سواء عبر الدعم التقني والمادي أو عبر دعم مستلزمات الانتاج أو من خلال بعث مشروعات ريّ كبيرة ودعم المعرفة الزراعية الحديثة ونشر الارشاد الزراعي وتأسيس مراكز بحثية ومدارس زراعية وبناء تعاونيات زراعية. تميزت تلك الحقبة بخطاب للدولة منحاز للتحديث والزراعة التجارية والتصديرية وتهميش الزراعة الصغيرة/العائلية والمعاشية. في نفس الوقت الذي هيمنت فيه سياسات تحقيق الاكتفاء الذاتي، فيما يتعلق بالأغذية الأساسية مثل الحبوب، استمرّ التركيز على المحاصيل التصديرية التي كانت تهيمن على المزارع الاستعمارية (مثل الحوامض والكروم والخضروات والقطن والزيتون)29.
التحولات النيوليبرالية وآثارها على الموارد الزراعية
منذ الثمانينيات، بدأ الانعطاف نحو سياسات الليبرالية الجديدة لدول شمال أفريقيا عبر تحرير السوق بضغط من المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي). اذ خضعت هذه الدول الى مشروطيّة تطبيق "توافق واشنطن" فبدأت تدريجيًا تحرير التجارة الخارجية وخفض سعر العملة المحلية وإحكام سيطرة السوق بتوالي خصخصة الشركات العمومية والتصفية التدريجية للخدمات العامة، وأُعطيَت الأولوية لخفض الديْن العامّ وتقليص الإنفاق الاجتماعي وخفض معدلات التوظيف في القطاع العام30.
أحدثت هذه التحولات في بلدان شمال أفريقيا تغييرا كبيرا في إدارة المياه والأراضي الزراعية في المناطق الريفية؛ انسحبت الدولة من إدارة الموارد الطبيعية وتركت مساحة أكبر للقطاع الخاص. وقد أدى ذلك إلى زيادة نفاذ شركات الاستثمار الخاصة في الزراعة واستحواذها على الأراضي والمياه، خاصة في المناطق الصحراوية الشاسعة اعتمادا على المياه الجوفية عبر تسهيلات الحصول على الأراضي التي تقدمها الدولة لكبار المستثمرين الزراعيين31.
في الجزائر، اُنهيَت مزارع الدولة وقُسِّمَت إلى مزارع أصغر (10-70 هكتارًا). في عام 1987 انتقلت هذه الأراضي تدريجيا إلى أيدي المستثمرين الزراعيين. ورافق هذا التغيير التحرك تدريجيا نحو قوانين السوق32: حُرّرت أسعار مستلزمات الانتاج الزراعي منذ الثمانينات بشكل تدريجي وارتفعت أسعار الأسمدة والمبيدات والمعدات الزراعية ونتج عن ذلك زيادة اسعار المنتجات الزراعية. وبعد توقيع الجزائر على اتفاقية مع صندوق النقد الدولي عام 1994 رُفع الدعم عن جميع مستلزمات الانتاج الزراعي. في المغرب زادت حدّة التحولات النيوليبرالية في القطاع الزراعي في العام 2003 حيث تمّ خصخصة الشركتين العموميتين اللتين كانتا تديران الجزء الأكبر من الأراضي المسترجَعة، وهما شركة التنمية الفلاحية (صوديا) وشركة تسيير الأراضي الفلاحية (صوجيطا)، وتحولت ملكية 90% من الأراضي الزراعية الاستعمارية السابقة الى يد شريحة من الرأسماليين وأعيان الدولة الكبار في الإدارة والجيش والأمن33. أمّا في تونس فقد طُبِّقت السياسات النيولبيرالية مبكّرا قبل توقيع برنامج التكييف الهيكلي مع البنك الدولي عام 1986. فقد اتجهت الدولة نحو توجيه الانتاج الزراعي نحو التصدير والمحاصيل عالية القيمة المضافة وتوفير التمويل للاستثمارات الزراعية وانهاء تسويق الدولة للمنتجات الزراعية34 . صاحب هذه السياسات ايضا انسحاب تدريجي للدولة من القطاعات الزراعية التقليدية.35.
وفي مصر ومنذ العام 1979 انتُهجت سياسات الانفتاح الاقتصادي وتمّ تفكيك المزارع المملوكة للدولة ووقع إعادة النظر في قوانين الاصلاح الزراعي وحلّ الاتحاد التعاوني الزراعي. كذلك اتخذت الدولة مجموعة من الإجراءات لتقليص الدّعم على الفلاحين بالوادي والدلتا مثل: تحرير أسعار توريد المحاصيل الزراعية والغاء دعم المبيدات والاسمدة والسماح للقطاع الخاص بالاتجار في مستلزمات الانتاج الزراعي36 . وأُلغيَ الحدّ الأقصى لملكية اراضي الاستصلاح للشركات الزراعية وتسهيلات تمكين المستثمرين من الاراضي. وفي عام 1992 صدر قانون تنظيم العلاقات الايجارية بين المالك والمستأجر (قانون 96 لسنة 1992) والذي أنهى الأمان الايجاري وتسبَّب في موجة من الاحتجاجات في الريف المصري37. في جميع بلدان شمال أفريقيا، اهتمت الدولة بالتوسع في الزراعة الصحراوية من أجل التصدير وتوسيع تسليع اراضي الدولة وتوفيرها للمستثمرين الزراعيين. منذ التسعينيات، كانت سياسات التنمية الزراعية في الصحراء تُعتَبر الحلّ لتوفير أو انتاج المواد الغذائية في بلدان شمال أفريقيا39 .كانت سياسات التوسع الزراعي في الصحاري مدعومة من المؤسسات المالية الدولية وكانت مستوحاة من التجربة كاليفورنيا، أي تكثيف رأس المال والتكنولوجيا واستنزاف الموارد المائية والارضية من أجل انتاج محاصيل ذات قيمة مضافة عالية للتصدير.40
أدّت هذه التحولات الى انهاء سياسات الاكتفاء الذاتي للغذاء. وذلك من خلال وقف دعم الانتاج المحلي والتوجه الى سياسات الأمن الغذائي، والتي تعني الحصول على الغذاء من أيّ مصدر سواء عبر انتاج الاستثمارات المحلية أو الاستيراد أو الاعانات الغذائية. كما حدثت تحولات كبرى في النُظم الغذائية وشهدت الدول ارتفاعًا في أمراض التغذية وزادت التبعية الغذائية واصبحت الجزائر أكبر مستورد للقمح في العالم وتتنافس في ذلك مع مصر.
يمكن تلخيص أهم الملامح الرئيسية للنظام الغذائي-الزراعي المهيمن في بلدان شمال أفريقيا بعد حوالي أربعين عامًا من تطبيق السياسات النيوليبرالية بالنقاط التالية:
- إلغاء دعم صغار الفلاحين وانسحاب الدولة التدريجي من كل أشكال السند التقني والعيني للإنتاج الزراعي الفلاحي والواحي، ويتضمّن ذلك تخلّيها عن دورها في التحكم في العمليات والممارسات الزراعية من التسميد ونوع البذور والمبيدات مركزيًّا، وكذلك تسعير مُدخلات الزراعة أو مُخرجاتها وترك كل ذلك لقوى السوق، وتخليها عن دعم مستلزمات الإنتاج، وكذلك الدعم الائتماني. وإطلاق حرية القطاع الخاص في استيراد وتداول المستلزمات.
- الترويج لنمط الإنتاج الكبير ودعم نموذج المزارع الزراعية الشاسعة، على غرار نموذج كاليفورنيا. وذلك عبر استصلاح الصحراء وتسهيل حصول المستثمرين الزراعيين على مساحات شاسعة من الأراضي، بالشكل الذي يعيد انتاج الاستعمار الجديد عبر استحواذ القلة على الأراضي ويَظهر ذلك بوضوح في حالات كُلٍ من المغرب ومصر.
- تبنّي سياسة الزراعة من أجل التصدير، بمعنى خلق حوافز للتصدير وتقديم تسهيلات لبناء مبرّدات بالمطارات وأيضًا إعطاء حوافز مالية للتصدير عبر صناديق دعم الصادرات والانخراط في منظومة علاقات تجارية دولية تُحقّق مصالح الشمال العالمي وليس مصالح السكان المحليين، ويتضّح ذلك في كُلٍ من المغرب وتونس ومصر
- هيمنة نمط غذائي استهلاكي مُعوْلم وعالي في استهلاك الكربوهيدرات الرخيصة مُحدثا ارتفاعا في معدلات الأمراض المرتبطة بالغذاء وارتفاع معدلات السمنة وسوء التغذية. واستبدال سياسات الاكتفاء الذاتي من الغذاء بسياسات الأمن الغذائي، بمعنى الحصول على الغذاء من أي مصدر بدلًا من إنتاجه محليا في جميع بلدان الدراسة.
الوضع الراهن: زراعة فلاحية مهمشة وزراعة رأسمالية استخراجية
بعد انحسار سياسات الرفاه لحكومات ما بعد الاستعمار في طور السياسات النيوليبرالية أعيد انتاج شكل أكثر محلية من الثنائية التي كانت حاضرة في الحقبة الاستعمارية: بين قطاعين زراعيّين، أحدهما يتمتع بالتطور وبالحيازات الكبيرة ودعم السلطة والآخر يوصم بالتأخّر ويَلقى التهميش ويمثل زراعات صغار الفلاحين في السهول والأودية والواحات والزراعات المطرية.
في شمال أفريقيا تُعَدُّ الزراعة قطاعا رئيسيا لتوظيف النساء، حيث تُوظِّف حوالي 55 في المائة من عمالة الإناث في مقابل 23 في المائة فقط من عمالة الذكور41. يزيد أعداد العمال الموسميّين المهاجرين مع هجرات النساء والرجال الاقتصادية أو من جراء الحروب والنزاعات. في مصر، على سبيل المثال، وفقا للتعداد الزراعي لعام 201042 وصل إجمالي العاملات في القطاع الزراعي الى خمسة ملايين سيدة، تعمل 40% منهنّ دون أجر لدى عائلاتهنّ. مع نمو أشكال الزراعة الراسمالية زادت عمليات تأنيث العمل الزراعي والاعتماد بشكل كبير على الفتيات من سنّ صغير (يبدأ أحيانا من عمر 8 سنوات) في ظل ظروف عمل شديدة السوء43. يَطرح العمل في القطاع الزراعي إشكاليات عديدة مرتبطة بظروف الشغل والمسائل الصحية وتقسيم العمل محليا ودوليا وعلاقة ذلك بتمكين النساء وتحقيق التنمية. تكتسب أوضاع عاملات المزارع أهمية خاصة في ظل اللحظة الحالية المرتبطة بالأزمة الصحية ومخاوف تكرار أزمة غذائية جديدة تزيد بُعدا إضافيا إلى الأزمات التي تشهدها المنطقة.
الزراعة أيضا هي واحدة من أكثر القطاعات الإنتاجية خطورة في العالم. وفقًا لتقديرات مكتب العمل الدولي، يُقتل حوالي 170.000 عامل أو عاملة زراعي كلّ عام. وهذا يعني أنّ العمال في الزراعة يتعرضون على الأقل لخطر الوفاة في العمل بمقدار الضعف مقارنة بالعاملين في القطاعات الأخرى. كما أنّ الملايين من العمال والعاملات الزراعيين يتعرّضون لإصابات عمل خطيرة في حوادث مرتبطة بالأدوات الزراعية أو التسمّم بالمبيدات الحشرية والمواد الكيميائية الزراعية الأخرى44. علاوة على ذلك، بسبب قلّة الإبلاغ عن الوفيات والإصابات والأمراض المهنية في الزراعة، من المرجح أن تكون الصورة الحقيقية للصحة والسلامة المهنية لعمال المزارع أسوأ في دول المنطقة.
الأوضاع المتدهورة للزراعة بشمال افريقيا مدعومة بالعلاقات غير المتكافئة في النظام العالمي للإنتاج والاستهلاك. فدول المنطقة تخضع الى أحد اشكال التبادل غير المتكافئ مع الشمال العالمي، خاصة الاتحاد الاوربي محكومة بالاتفاقيات التجارية التي تدعم وصول المنتجات الزراعية لدول شمال أفريقيا الى الاتحاد الأوربي بأسعار تفضيلية للمستهلك الاوروبي وتسهل استغلال موارد المنطقة وفارق أجر العمل في القطاع الزراعي بالجنوب واستخلاص فائض القيمة لصالح المستهلك الاوربي45. يتحمل الاتحاد الأوروبي مسؤولية كبيرة عن هيمنة الزراعة التصديرية بدول المنطقة باعتباره أكبر شريك تجاري لدول شمال أفريقيا وممول رئيسي لنموذج التنمية النيوليبرالي بالمنطقة.46 وبالتالي يؤثر على سياسات التنمية وعلى خطط التجارة والزراعة المهيمنة بالمنطقة. فالاتحاد الأوروبي يتبنّى شعار "التجارة من أجل التنمية"47 ويضغط بدعم من النخب المحلية من أجل توقيع اتفاقيات تجارية حرّة ومعمقة مع دول شمال أفريقيا تزيد من أزماتها الهيكلية48 .
يرى منظرّو التبعية أنّ الاستعمار ربما يكون قد رحل لكن نموذج التنمية للحقبة الاستعمارية ظلّ مهيمنا بدرجات مختلفة مكرّسا التفاوت بين الشمال والجنوب العالميين. ومع العصر النيوليبرالي لعب المستعمرون السابقون دورًا مركزيًا في ادماج اقتصاديات الدول المجاورة في الاقتصاد العالمي ومنظومة التجارة العالمية، خاصة في منظومة الاتحاد الأوروبي، كأطراف تابعة.49 تتطلّب تلبية احتياجات السوق الاوروبي التركيز على زراعة المحاصيل الأحادية والمزارع الكبيرة والالتزام بمتطلبات الذوق العام الاوروبي في طريقة اعداد زيت الزيتون مثلا أو زراعة أصناف محددة من التمور، أو الفراولة، أو اللأزهار أو التخصص في زراعة اصناف محددة من الحمضيات.
خلقت هذه السياسات والممارسات الزراعية وضع بيئي للقطاع الزراعي يعبّر عن ثنائية أخرى. من ناحية هناك استنزاف للموارد البيئية من أرض ومياه من قبل الزراعة الرأسمالية التي ترتكز على تكثيف رؤوس الأموال والطاقة وتزيد من هشاشة أوضاع العاملات وعمال الزراعة وزيادة التفاوت وتمركز الملكية العقارية الذي يظهر ذلك بشكل واضح في الزراعة الصحراوية، حيث تُخَصَّص مساحات شاسعة لكبار المستثمرين في حين يحصل الفلاحون الصغار على مساحات محدودة50. ومن ناحية أخرى هناك تدهور في الموارد في الواحات والمناطق الريفية نتيجة لغياب دعم الزراعة الفلاحية الصغيرة. أضف إلى ذلك أنّ ميراث "الثورة الخضراء" من تكثيف للأسمدة والمبيدات والبذور الهجينة قد أدى إلى اهمال النظم الزراعية والبيئية المحلية الموروثة. وهو ما تسبب في تدهور الموارد الطبيعية من أراضِ ومياه وفقدان التنوع الحيوي للبذور والاخلال بالتوازن في التبادل بين الانسان والبيئة مُحدِثًا ما يُعرف بالتصدّع في التبادل المتكافئ الاجتماعي-الإيكولوجي Metabolic Rift51