معادن المغرب الاستراتيجية والحرجة فرصة للتصنيع أم ساحـة معركة جيوسياسية بين الصين والغرب؟

Publication date:
34 minutes read

في خضمّ سباق عالمي محموم للهيمنة الخضراء، يتموضع المغرب كفاعل محوري في معركة السيطرة على المعادن الحرجة. لكن هل يُمكن لهذا الاندفاع نحو "النمو الأخضر" أن يُفضي إلى تحوّل جذري حقيقي؟ أم أنه مجرّد إعادة إنتاج للنموذج الاستخراجي القديم تحت غطاءٍ أخضر؟

Cover

About معادن المغرب الاستراتيجية والحرجة

Publication type
Paper

Authors

Authors

Ali Amouzai

ملخص تنفيذي

فجأة أصبح المغرب مقصدا لاستثمارات ضخمة لتثمين المعادن الاستراتيجية والحرجة الموجَّهة لتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية. تأتي في المقدمة الشركات الصينية. ما الذي يفسر هذا الدفق الكبير من مليارات الدولارات من الاستثمارات في تصنيع البطاريات الكهربائية؟ هل هناك حاجة داخلية في الاقتصاد المغربي لذلك؟ هل يندرج ذلك في إطار مجهودات الدولة المُعلَنة لـ"تخضير الاقتصاد"؟ أم أن الأمر أكبر من ذلك، متعلقا بنهج قديم لدى الرأسمال المغربي الكبير والدولة، نهج قائم على استثمار فرص التحولات في استراتيجيات الرأسمال العالمي والتموقع في إطارها؟ ما موقع المغرب في عاصفة التنافس الجيوستراتيجي بين الصين والغرب الإمبريالي حول المعادن الاستراتيجية والحرجة؟ وهل يتيح له هذا التنافس إمكانات لتصنيع اقتصاده وترسيخ تنمية اقتصادية بمنظور أخضر؟

سياق عالمي حفَّاز

يشهد العالم حراكا غير مسبوق نحو اقتصاد أخضر، بحفزِ مزدوج من حركات العدالة المناخية والانتقال البيئي العادل من جهة، وسعي الرأسمال للتكيف مع أزمة بيئية من صنعه من جهة أخرى. في هذا السياق هناك سعي محموم لرسمَلة هذه الحلول الخضراء، لجعلها تخدم نفس النموذج الاقتصادي القائم. تتغذى هذه الحركة المحمومة بالتنافس بين قوى مهيمِنة تقليدية (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان) وقوى يُطلق عليها "صاعدة" (الصين بالأساس). لكن الأكيد أن هذه الأخيرة تستعمل نفس الآليات التي أوجدتها القوى الأولى منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين، سُميَت "عولمة نيوليبرالية": التبادل الحر، مناطق التصدير الحر، المناطق الصناعية الحرة، مقاولات المناولة من باطن، تحرير الاستثمار، الاستيلاء على الشركات واندماجها... إلخ.

سـعي محمـوم للهيمنـة عـلى سلسـلة قيـم المعـادن الاسـتراتيجية والحرجة

في سياق هذا السعي المحموم، هناك تنافس شرس حول من سيهيمن عالميا على سلسلة تصنيع وتوريد المعادن الاستراتيجية والحرجة، التي تشكل المادة الأساسية لتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية. في وجه هيمنة الصين على هذه المعادن، تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى فك الارتهان بها، والنهوض بقدرات إنتاجهما الوطني. تعمل الولايات المتحدة على تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع حلفائها بشأن المعادن الحرجة، وفي حربها التجارية ضد الصين سن جو بايدن قانون مكافحة التضخم سنة 2022، وبعد صعود ترامب أطلق حربه التجارية الموعودة، وأعلن عن زيادة فورية في الرسوم الأمريكية على الواردات الصينية إلى 125 في المائة، بالإضافة إلى نسبة 20 في المائة التي فرضها الرئيس الأمريكي على الصين في السابق - ليصل إجمالي التعريفة الجمركية إلى 145 في المائة، في حين رفعت وزارة المالية الصينية التعريفة الجمركية على السلع الأمريكية إلى 84 في المائة، وفي 4 أبريل 2025 أعلنت وزارة التجارة الصينية وضع قيود على تصدير 7 عناصر معدنية نادرة إلى الولايات المتحدة، هي الساماريوم، والغادولينيوم، والتيربيوم، والديسبروسيوم، واللوتيتيوم، والسكانديوم، والإيتريوم. وفي الاتحاد الأوروبي، قدمت المفوضية الأوروبية سنة 2023 قانون المواد الخام الحرجة (CRMA) 2023 وآلية تعديل حدود الكربون.

تتنوع هذه الاستراتيجيات، لكنها تشترك في نقطتين أساسيتين. الأولى؛ كلها تستعمل السياسات العامة وتدخُّل الدولة لدعم شركاتها المستثمِرة في القطاع، وهو ما أعاد إلى الواجهة نقاش السياسات الصناعية، وحفز نقاش السياسات الصناعية الخضراء على المستوى العالمي؛ والثانية، أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة والصين من جهة أخرى، تتنافس على نفس الأرضية: من يهيمن على سلسلة المعادن الحرجة والاستراتيجية والسيارات الكهربائية في السوق العالمية.

يغذي هذا التنافس نقاشا قديما حول طابع صعود الصين: هل لا تزال ضمن بلدان تسعى إلى فك ارتباطها مع الإمبريالية؟ أم أن صعودها اكتمل باكتسائها طابعا إميرياليا؟ مفاد الورقة أن الصين أصبحت بدورها قوة إمبريالية تسعى إلى تأمين نصيبها من الهيمنة العالمية، وتستعمل في ذلك نفس آليات الإمبرياليات الأخرى (التبادل الحر، مناطق التصدير الحُرّ، المناطق الصناعية الحُرّة، مقاولات المناولة من الباطن، تحرير الاستثمار، الاستيلاء على الشركات واندماجها... إلخ).

المغرب: سعيٌ لاستغلال هذا التنافس

بين رحى هذا التنافس، تبحث قوى من الجنوب العالمي عن نصيب من هذا السعي المحموم لرسمَلة تلك الحلول الخضراء والتنافس حول مواردها. يُعد المغرب  إحداها، ويسعى لانتهاز فرص عدة تمنحها الأزمات العالمية لتحسين موقعه في التقسيم الدولي للعمل، باستغلال ذاك التنافس، وبعرض نفسه كبلد آمن للاستثمارات وزرع حلول الرأسمال العالمي في وجه أزماته.

منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، مع برنامج التقويم الهيكلي، فتح المغرب اقتصاده بشكل كلي أمام الرأسمال العالمي، محافظا على نفس دوره في التقسيم الدولي للعمل الذي أرساه الاستعمار رسميا منذ سنة 1912، مع سعي لتحسين موقعه ضمن ذلك التقسيم. وفي مجال الطاقات الخضراء، يقدم المغرب نفسه كمجال خصب لاستزراع محطات تلك الطاقات (الريحية والشمسية والهيدروجين الأخضر) . وفي نفس السياق يسعى إلى استقطاب استثمارات أجنبية ضخمة لتثمين المعادن الاستراتيجية والمعادن الحرجة الموجهة لتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية. مُدرِجا كل هذا في إطار سياسة عامة تُسمى "سياسة صناعية خضراء" و"نموا أخضر".

يشكل الاتحاد الأوروبي المقصِد الرئيسي لمطامح المغرب تلك. فالاتحاد الأوروبي هو السوق التقليدية للرأسمال المغربي (تصديرا وتوريدا)، وكل تحول في اتجاهات تلك السوق تفرض على المغرب تكيفا (ظرفيا وهيكليا) معه. بعد إعلان الاتحاد الأوروبي الصفقة الخضراء لبلوغ الحياد الكربوني في أفق 2050، سارعت الدولة إلى فتح أراضيها لتكثيف الاستثمارات في مزارع الطاقة الريحية والشمسية والهيدروجين الأخضر لتزويد الأسواق الأوروبية بالطاقات المتجددة، وترسخ ذلك بعد أزمة الغاز الروسي الناتجة عن الحرب على أوكرانيا. وعندما أعلن الاتحاد الأوروبي "آلية تعديل حدود الكربون CBAM، أعلنت الدولة مرة أخرى "برنامج نمو أخضر" لتخضير الصناعة، وطالبت المصدرين المغاربة للتكيف مع تلك الآلية، لضمان ولوج السوق الأوروبية.

المغرب: نافذة من نوافذ الصين نحو الغرب

في هذا الإطار أيضا، يأتي سعي المغرب لاستقطاب الاستثمارات في المعادن الحرجة والاستراتيجية لتصنيع البطاريات الكهربائية. فالحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين والتوترات الجيوسياسية بينهما، خاصة بعد إعلان جو بايدن قانونَ الحد من التضخم، جعلت الصين في حاجة إلى بلدان لها ولوج مفتوح إلى السوق الأمريكية، وهذا متاح فقط للبلدان التي لها اتفاقيات تبادل حر وتجارة حرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وضمنها المغرب. هذا ما تسميه الدولة والرأسمال المغربي الكبير "انتهاز الفرص"، للتموقع أفضل في التقسيم الدولي للعمل، ما يتيح "إقلاعا صناعيا" طال انتظاره.

اتجهت شركات صينية عديدة نحو المغرب لإقامة مشاريع تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية: (CNGR و Gotion High-Tech و Shinzoomو Youshan وHuayou Cobalt).

لمواجهة إغلاق الولايات المتحدة أسواقها في وجه الشركات الصينية، اختارت الصين استعمال "التوطين الصديق" للاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والبلدان الأخرى وعَقد الشراكات - على مستويات مختلفة من سلسلة التوريد - مع شركات من البلدان الحليفة للولايات المتحدة. ويشير هذا إلى المرونة الفائقة للصين وشركاتها للتكيف مع آليات الحرب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضدها.

ومن جهته يعتبر المغرب قدوم الصين للاستثمار في قطاع المعادن الحرجة فرصة تاريخية لضمان إقلاعه الصناعي المتأخر دوما.

عوائق في وجه مطامح المغرب

تصطدم هذه المطامح الكبيرة للرأسمال المغربي الكبير بعوائق هيكلية ضخمة على رأسها: الاقتصاد السياسي (أي تحكم المَلكية في القرار الاقتصادي) ثم التمويل (نقص مبادرة القطاع الخاص والتعويل على المالية العمومية والديون)، وأخيرا مشكلة نقل التكنولوجيا، وفي التحديد الأخير تبعية الاقتصاد المغربي للمراكز الإمبريالية، ومن هنا التكرار المُمِلِّ لعبارة "سيادة" في وثائق الدولة مؤخرا: "السيادة الاقتصادية"، "السيادة الطاقية"، "السيادة الغذائية"... إلخ.

تعول الدولة (والرأسمال الكبير) على الاستثمارات الأجنبية لتجاوز العائقين الثاني والثالث، فيما العائق الأول مقبول من طرف الرأسمال الكبير المغربي والأجنبي والمؤسسات المالية الدولية، كون المَلكية هي ضامن الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي في بلد يقع ضمن منطقة متوترة، ومع ذلك، فإن النظام الملكي المغربي يبذل قصارى جهده للتخفيف من أي مخاطر من خلال تقليل التبعية بتنويع ما يُطلِق عليه "شركاءَه"، ومن هنا انفتاحه على الصين.

يدفعنا هذا إلى القول بأن هذه الاستراتيجية القائمة على التموقع في صلب استراتيجيات الرأسمال العالمي واستغلال التنافسات القائمة بين قواه، ستتيح للمغرب تحسينا لموقعه في نفس التقسيم الدولي للعمل، ولكن ليس ما تُعلنه دوما وثائق الدولة ودعايتها: التحول إلى قوة صاعدة وتصنيع البلد. فالرأسمال المغربي الكبير (شديد التدويل) والمستنِد على المَلكية، ضامن لنصيبه من تلك الاستثمارات، لذلك لا مصلحة له في وضع شروط في وجه تلك الاستثمارات الأجنبية (نقل التكنولوجيا على سبيل المثال)، خصوصا في سياق تنافس شديد بين دول الجنوب العالمي لاستقطاب تلك الاستثمارات. لا يزال نصيب الرأسمال المغربي هو "المقاول من باطِن"، وأقصى ما يسعى إليه هو "المقاوِل المشارِك".

سراب التنمية الاجتماعية

الثمار الاجتماعية لتلك الاستثمارات (وتلك الاستراتيجية القائمة على التموقع في صلب استراتيجيات الرأسمال العالمي واستغلال التنافسات القائمة بين قواه عموما) مشكوك فيها. يشكل العمل القار أحد شروط الانتقال الأخضر العادل، لكن التجربة العملية (المناطق الصناعية الحرة حيث تركيب السيارات والطيران والأسلاك الكهربائية... إلخ)، برهنت على أن ما يسمى خلق مناصب شغل، تعتمد على العمل بالمناولة/ التعاقد من الباطن، حيث مناصب الشغل هشة في إطار قانون شغل اعتمد المرونة منذ عشرين سنة، فضلا عن محاربة شديدة للعمل النقابي. أما المشاريع الكبرى (مثل محطات الطاقات المتجددة)، فلأنها مشاريع كثيفة الرأسمال فإن مناصب الشغل تقتصر على مرحلة أعمال البناء والتشييد، وبعد ذلك تنتفي تلك المناصب، وتكتفي بمناصب عالية التأهيل وهي قليلة جدا.

نفس الشيء بالنسبة لانعكاسات هذه الاستثمارات على المجتمعات المحلية حيث مكامِن الثروات الباطنية (خاصة المعادن). أكدت التجربة العملية مرة أخرى، أن تلك الاستثمارات مضرة بالمجتمعات المحلية، إذن تستنزف ثرواتها (المعادن والماء والغابات)، مع نزر ضئيل جدا من مناصب شغل وفتات يُطلق عليه تنمية اجتماعية. وقد أثار هذا احتجاجات عديدة لسكان تلك المجتمعات (إيميضر وبوازار بإقليم وارزازات، وتغيغاغشت وأقانوانين بإقليم ميدلت... إلخ).

وهم التحول الأخضر

لا تدخل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحفاظ على الاستدامة البيئية في أجندات المَلكية والرأسمال المغربي الكبير إلا من باب الدعاية/ البروباغندا. فما يهمهما هو ضمان نصيبهما من الكعكة.

مبتغى الرأسمال المغربي ودولته من تبني الخطاب الأخضر، هو الركض وراء الحصول على التمويلات الخضراء الموعود بها دُوليا، وفي نفس الوقت تكيُّف مع التحولات الجارية في جاره الشمالي، خصوصا بعد تبني الاتحاد الأوروبي لآليات تعديل حدود الكربون Carbon Border Adjustment Mechanism/ CBAM، ولتجنب ما قد تضعه من عراقيل أمام الشركات المغربية لولوج السوق الأوروبي، لذلك أوصَت وزارة الاقتصاد والمالية المصدّرين المغاربة بالتنسيق مع شركائهم الأوروبيين لتجنب أي قيود

توصيات

تنتهي الورقة بجرد توصيات، مع استحضار سياق عالمي شديد التفجر وغير ملائم (صعود اليمين المتطرف في أوروبا، فوز ترامب في انتخابات الولايات المتحدة...). تؤكد الورقة على أن الطاقة (باختلاف مصادرها) قد تكون مساهِمة في بناء مستقبل أخضر وأكثر عدالة اجتماعية، لكن الطاقة ليست مستقلة عن البنية الاقتصادية للعالم وهيكله الاجتماعي وتنظيماته الدَوْلَتيّة وما يخترقها من أشكال اضطهاد طبقية وعرقية وجندرية... إلخ. لذلك لا يمكن الحلم بعالم أخضر مستديم ما دامت الرأسمالية قائمة.

تؤكد الورقة في توصياتها على ضرورة سياسة صناعية خضراء تفك تبعية البلد للمراكز الإمبريالية (قديمها وجديدها)، سياسة ترتكز على الطلب المحلي في قطيعة مع الاستراتيجية القديمة القائمة على التصدير، ليس هذا دعوة لانغلاق قومويّ، فالتعاون بين الشعوب مطمحُنا، لكنه لا يعني أن تتحمّل شعوب الضفة الجنوبية للبحر المتوسط الكلفة المالية والبيئية والاجتماعية لاستدامة ضفته الشمالية، فتاريخُ القرون السابقة كلّه قائم على هذا التحميل. تؤكد الورقة على أن هذه السياسة تستدعي التعاون بين بلدان المنطقة المغاربية، للاستفادة من تكامل مواردها الطبيعية وإمكاناتها المالية والمؤسسية، على أن يكون هذا التعاون الإقليمي حلقة الوصل بين السياسات الوطنية والمبتغى النهائي المتمثل في اشتراكية إيكولوجية لا يمكن إقامتها إلا على المستوى العالمي.

لدعم هذه السياسة الصناعية الخضراء، تركز الورقة على قطاع الطاقة النقل والقطاع المالي والبنكي، وسياسة التشغيل، مؤكدة على أن سياسة عمومية تحت رقابة مواطنية (عمالية وشعبية)، وحدها ستجعل من هذه القطاعات أدوات فعالة لتأمين سياسة تصنيع أخضر يضمن انتقالا اقتصاديا وبيئيا واجتماعيا عادلا.