التطبيعُ البيئي العربي الإسرائيل الغسلُ الأخضرُ للاستعمار الاستيطاني في فلسطين والجولان

تروج إسرائيل سردية تحويل فلسطين قبل العام 1948 من أرض قاحلة إلى واحة غناء بعد قيام الدولة كوسيلة لتجميل صورة سياساتها الاستيطانية والفصل العنصري. إذ تعزز اتفاقيات إبراهيم، المقدَّمة كتفوق بيئي لإسرائيل، صورتها الدولية وتعمّق العلاقات مع الدول العربية عبر مشاريع مشتركة في مجالات الطاقة المتجددة والزراعة، وهو ما تعتبره اللجنة الوطنية لحركة المقاطعة الفلسطينية تطبيعًا للقمع الإسرائيلي.

يستقصي هذا المقال التطبيع البيئي في فلسطين والجولان، متسائلاً عن تأثيرها على النضالات الفلسطينية ضد الاستعمار وعلى الانتقال العادل في مجالي الزراعة والطاقة، ويقدم مفهوم "الصمود البيئي" كاستراتيجية لمواجهة الغسل الأخضر الذي تمارسه إسرائيل. يعد هذا المقال فصلا من كتابيْ "تحدي الرأسمالية الخضراء: العدالة المناخية و الانتقال الطاقي في شمال أفريقيا" الذي نُشر بالتعاون مع دار الصفصافة و "تفكيك الاستعمار الأخضر: العدالة الطاقية والمناخية في المنطقة العربية"، الذي نشر بالتعاون مع دار النشر Pluto Press باللغة الانجليزية.

Authors

Longread by

منال شقير
Illustration by Othman Selmi

Illustration by Othman Selmi

ادَّعت إسرائيل أنَّ فلسطين – ما قبل عام 1948– صحراءٌ خالية وقاحلة، وأنَّها صارت واحة مزهرة بعد تأسيس دولتها، وروّجت لذلك بقوة.1 بحسب إسرائيل وداعميها، فإنَّ تلك الواحة محاطة بشرق أوسط مخيف ومنحطّ وقاحل، وغارق في البدائية والتخلّف.2 اضطلعت صورة إسرائيل الخضراء، التي تُقدّم على النقيض من شرق أوسط همجي وغير ديمقراطي، بدورٍ جوهري في مساعيها من أجل الغسل الأخضر لبُنيتها كنظام استعمار استيطاني وفصل عنصري (أبارتهايد)، واستثمرت إسرائيل خبرتها في الزراعة التجارية، والتشجير، والحلول المائية، وتكنولوجيا الطَّاقة المُتجدِّدة لصالح جهودها في الغسل الأخضر وروايتها على صعيد العالم.3

رُوِّج بقوة لدعاية التفوّق البيئي الإسرائيلي على بقية الشرق الأوسط (وشمال إفريقيا) بعد إبرام إسرائيل لـ"اتفاقيات إبراهيم" مع الإمارات العربيَّة المُتَّحدة والبحرين والمغرب والسودان في عام 2020. وتُعرَّف "اتفاقيات إبراهيم" بكونِها صفقة تطبيعيّة بوساطة الولايات المُتَّحدة الأمريكية، تُعزز العلاقات التطبيعية (القائمة بالفعل) مع الدول العربيَّة الأخرى، التي ليست طرفًا رسميًا في الاتفاقية، خاصةً الدول/ الأنظمة التي لم تُضْفِ بعد الطابع الرسمي على علاقاتها طويلة الأمد مع إسرائيل مثل المملكة العربيَّة السَّعوديّة وسلطنة عُمان، إلى جانب الدول العربيَّة التي تقيم علاقات دبلوماسية كمصر والأردن. ويُعزى إلى تحالف تلك الدول العربيَّة، الذي تمَّ تشكيله تحت مظلّة تلك الاتفاقيات، زيادة التعاون العربي مع إسرائيل في المجالات المتعلقة بالأمن والاقتصاد والصحة والثقافة والبيئة، وغيرها من المجالات،4 وهو ما أكَّدته الاتفاقياتُ ومذكراتُ التفاهم التي وقعتها إسرائيل مع  الدول العربيَّة المطبّعة حديثًا خلال السنتين المنصرمتين، لتنفيذ مشاريع بيئيّة مشتركة متعلِّقة بالطَّاقة المُتجدِّدة والزراعة التجارية والمياه.5

يجِيءُ في تُعرّيف التطبيع، حسب اللجنة الوطنيّة الفلسطينيّة للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، التي تعمل على وضع حدٍّ للتواطؤ الدولي مع الاضطهاد الإسرائيلي، أنَّه: "المشاركة في أيّ مشروع أو مبادرة أو نشاط محلي أو دولي يجمع (على نفس المنصّة) فلسطينيّين (و / أو عرب) وإسرائيليّين (أفرادًا كانوا أو مؤسسات)".6

وتوضح اللجنة أنَّ مساحات التطبيع لا تستوفي الشروط التي وضعتها فيما يتعلّق بالحقّ الفلسطيني في تقرير المصير، وتفكيك نظام الاضطهاد الإسرائيلي ثلاثيّ الطبقات (الاستعمار الاستيطاني، والفصل العنصري، والاحتلال العسكري)، وحقّ اللاجئين الفلسطينيّين في العودة إلى ديارهم استنادًا لقرار الأمم المُتَّحدة رقم 194 .7

تعتمدُ إسرائيل التطبيع لترسيخ استعمارها الاستيطاني العنصري، وفي هذا السياق، ترى شبكة السياسات الفلسطينية "الشبكة" أنَّ المشاريع التعاونية الصديقة للبيئة بين إسرائيل والدول العربيَّة شكلٌ مِن أشكال التطبيع البيئي،8 الذي يُعرَّف في هذا المقال لاستخدام "حماية البيئة" بغاية الغسل الأخضر للاضطهاد الإسرائيلي وتطبيعه، وللممارسات البيئيّة الجائرة الناتجة عنه داخل المنطقة العربيَّة وخارجها.

يبحث هذا المقال في التطبيع البيئي في كُلٍ مِن فلسطين والجولان 9(مرتفعات الجولان السورية المُحتلّة)، وينظُر في سؤالين:

  1. كيف يقوّض التطبيع البيئي – كأداة للغسل الأخضر – النضال الفلسطيني ضدَّ الاستعمار؟
  2. ما الطرق التي يعوق بها التطبيع البيئي التحوّل العادل في مجاليّ الزراعة والطَّاقة في فلسطين، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير؟

يقدّم المقال – أيضًا – مفهوم "الصمود البيئي" في وجه القمع الإسرائيلي، ودوره في مواجهة وظيفة الغسل الأخضر للتطبيع البيئي.

Illustration by Othman Selmi

مشاريع التطبيع البيئي

في 8 نوفمبر 2022، خلال  الدورة السابعة والعشرين من مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المُتَّحدة الإطاريَّة بشأن تغيّر المناخ (كوب 27) في شرم الشيخ في مصر،10 وقَّعت الأردن وإسرائيل مذكّرة تفاهم بوساطة إماراتية لمواصلة دراسة الجدوى بشأن مشروعين مترابطين،  يُطلق عليهما "الازدهار الأزرق" و"الازدهار الأخضر"، ويشكّلان معًا "مشروع الازدهار". وبحسب بنود الاتفاقية، سيشتري الأردن 200 مليون متر مُكعَّب من المياه سنويًا من محطة تحلية مياه إسرائيليّة يزمع إنشاؤها على ساحل البحر الأبيض المتوسط (الازدهار الأزرق)، وستستخدم الطَّاقة التي تنتجها محطة الطَّاقة الشمسيَّة الكهروضوئيّة بقدرة 600 ميجا وات، والتي ستُنشَأُ في الأردن (الازدهار الأخضر) من قِبل شركة "مصدر" للطاقة المُتجدِّدة، المملوكة لدولة الإمارات العربيَّة المُتَّحدة. واعتزمت الأطراف الموقّعة على الاتفاقية تقديم المزيد من الخُطَط الملموسة فيما يتعلق بتنفيذ المشاريع في قمّة "كوب 28"، التي ستُعقَد في الإمارات العربيَّة المُتَّحدة عام 2023. 11

اقتُرِحت فكرة "مشروع الازدهار" لأول مرة من قِبل منظّمة "إيكو بيس الشرق الأوسط" (Eco-Peace Middle East)، وهي منظّمة إسرائيليّة أردنيّة فلسطينيّة غير حكومية تدفع نحو تعزيز التطبيع البيئي بين الأطراف الثلاثة، في إطار "الصفقة الخضراء الزرقاء للشرق الأوسط"، وهي مبادرة تدَّعِي معالجة قضايا المياه والطَّاقة في إسرائيل وفلسطين والأردن، والمفارقة أنَّ فلسطين طرفٌ في هذه المبادرة، إلا أنَّه لم يكن لها دور في "مشروع الازدهار".12

وفي تطوّر آخر، قبل بضعة أشهر من مؤتمر "كوب 27" في أغسطس 2022، انضمّ الأردن إلى المغرب والإمارات العربيَّة المُتَّحدة والمملكة العربيَّة السَّعوديّة ومصر والبحرين وسلطنة عُمان لتوقيع مذكّرة تفاهم مع شركتي الطَّاقة الإسرائيليّتين "إينلايت جرين إينيرجي" (Enlight Green Energy ENLT) و"نيوماد إينيرجي" (New Med Energy)، لتنفيذ مشاريع في الطَّاقة المُتجدِّدة في تلك البُلدان،13 وستَشْرَع الشركتان اللتان تشاركان في مشروع الطَّاقة الهائل هذا، في تمويل وتشييد وتطوير وإدارة محطّات طاقة متجدّدة على الأراضي العربيَّة. كما تشمل مشاريع الطَّاقة "الخضراء" إنتاج طاقة الرياح والطَّاقة الشمسيَّة وتخزين الطَّاقة، وبينما تتخصَّص إي إِن إِل تي في مشاريع الطَّاقة المُتجدِّدة، فإنَّ نيوماد هي شركة للغاز الطبيعي والنفط. وتلعب كلتاهما، وبالأخصّ نيوماد، دورًا رئيسيًا في تعزيز علاقات التطبيع مع الدول العربيَّة سواء من خلال الصفقات القائمة على الوقود الأحفوري أو القائمة على الطَّاقة الخضراء.14

Illustration by Othman Selmi

الازدهار الأزرق: إسرائيل تروي الأردن الجافّ

تفاقمت في السنوات الأخيرة أزمة المياه المستمرّة  منذ عقود في الأردن.  وترجح وسائل الإعلام السائد أنَّ السبب في ذلك هو العدد المتزايد للاجئين السوريين والعراقيين الذين يستضيفهم الأردن، علاوة على أزمة المناخ. وبالفعل، جعل تدفُّق اللاجئين، الذين فرّوا من الحروب الإمبريالية التي شُنَّت ضدَّ بلادهم، الأردنَ عاجزًا عن تلبية الطلب المتزايد على المياه.15 ومع ذلك، فإنَّ إلقاء اللوم فقط على اللاجئين السوريين والعراقيين في تفاقم أزمة شُحِّ المياه دون تسليط الضوء على السبب الجذري وراء ذاك النقص – ألا وهو الاستيلاء الإسرائيلي على مياه الأردن – سلوكٌ دالٌ على العنصرية والكراهية للأجانب، ويصرف الانتباه عن دور إسرائيل في جعل الأردن دولة عطشى. فعلى مدى عقود، استنزفت إسرائيل موارد الأردن المائية لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية في المنطقة، معتمدةً على تلفيقات الغسل الأخضر لمشروع "الازدهار الأزرق" في وسائل الإعلام الإسرائيليَّة والغربية، والتي تبرّأ إسرائيل من مسؤوليتها عن أزمة المياه في الأردن.16

بعد توقيع مذكرة التفاهم لمشروع الازدهار عام 2022، علَّقت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" بالقول: "الأردن هي واحدة من أكثر الدول التي تعاني من نقص المياه في العالم. تواجه البلاد [...] آفاقًا مائية صعبة مع التوسع السكاني وارتفاع درجات الحرارة. تُعتَبر إسرائيل – أيضًا – بلدًا حارًا وجافًا، لكنَّ تكنولوجيا تحلية المياه المُتقدِّمة لديها أتاحت فرصًا لبيع المياه العذبة".17

يعكس ذلك جوهر سرديّة الغسل الأخضر الإسرائيليَّة عن الإحسان والرعاية البيئيّتيْن.18 وتُسوّقُ إسرائيل نفسها باعتبارها دولة جافة، لكنَّها رغمًا عن ذلك، وعلى عكس جيرانها (العرب)، طوّرت التكنولوجيا اللازمة لإدارة مواردها المائية الشحيحة بكفاءة وللتخفيف من آثار أزمة المناخ. مجّدت  إسرائيل خلال العقديْن الماضيَيْن تكنولوجيّتها المُتقدِّمة في قطاع المياه واحتفت  بنجاحها في مجال تحلية المياه.19 وفقًا لهذه الرواية، وبصفتها "كَريمة بيئيًّا"، تدَّعي إسرائيل دائمًا أنَّها وضعت تقنيتها في خدمة جارتها العطشى (الأردن)، حتى خلال أوقات التوتر بين البلدين، ونلمس صدى ذلك في تعليق نُشرَ عام 2021  في جريدة "ذا هيل" الأمريكية حول "مشروع الازدهار": "لدى إسرائيل والأردن تاريخ طويل من التعاون في مجال المياه، حتى في خضم التوترات السياسية. منذ معاهدة السلام الإسرائيليَّة الأردنية عام 1994، تقوم إسرائيل بتخزين بعضًا من حصص المملكة من نهر الأردن في بحيرة طبريا،  ثمّ تقوم بتفريغ الإمدادات حسب الحاجة".20

هذا غير صحيح، فواقع الأمر أنَّ إسرائيل لم "تُخزِّن" بعض "حصص" المملكة في بحيرة طبريا، بلْ تنهب حصّة الأردن من المياه من نهريّ الأردن واليرموك، خلافًا لإرادة الأردن المُعلَنة (وكان ذلك الأمر هكذا بشكل خاص في الماضي)، ولم تفرّغ إسرائيل "الإمدادات حسب الحاجة"، إنَّما واصلت تخزين مياه الأردن المنهوبة.21    

تاريخيًّا؛ شكَّل نهر الأردن أحد مصادر المياه الرئيسية للأردن، ووفَّر المياه لبقية بلاد الشام: فلسطين وسوريا ولبنان. وبعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، تغيّر ذلك بشكل كبير. ففي الخمسينيات من القرن الماضي، قام الصندوق القومي اليهودي، وهو منظمة إسرائيلية شبه حكومية، بتجفيف بحيرة الحولة والمستنقعات المحيطة بها في شمال فلسطين التاريخية (إسرائيل الحالية والأراضي الفلسطينية المُحتلّة).22 ادَّعت الحكومة الإسرائيليَّة ضرورة ذلك لزيادة رقعة الأراضي الزراعية كجزء من جهود الدولة الوليدة "لجعل الصحراء تُزهر". لم يفشل المشروع فقط في توسيع الأراضي الزراعية "المنتِجة" لصالح المستوطنين اليهود الوافدين حديثًا من أوروبا، بلْ تسبّب – أيضًا – في أضرار بيئيّة كبيرة ودمّر الموائل الطبيعية للعديد من الأنواع الحيوانية والنباتية،23 ناهيك عن أثره الواضح على نوعية المياه المتدفِّقة إلى بحر الجليل (بحيرة طبريّا)، أحد أكبر مصادر المياه العذبة في البلاد. علاوة على ذلك، فتدهور جودة المياه في البحيرة عطّل تدفّق المياه في نهر الأردن.24

في ذلك الأثناء، بدأت شركة المياه الوطنية الإسرائيليَّة "ميكوروت" في بناء ناقل المياه القُطري الإسرائيلي، بهدف تحويل مياه نهر الأردن عن الضفة الغربية والأردن لصالح المستوطنين الإسرائيليين على طول الساحل والمستوطنات اليهودية في صحراء النقب.25 وفي أعقاب الاحتلال الإسرائيلي لبقية فلسطين (الضفة الغربية – بما في ذلك القدس الشرقية – وقطاع غزة  مجتمعةً، الأراضي الفلسطينية المُحتلّة) في عام 1967، استعر النهب الإسرائيلي للمياه من نهر الأردن، فبات في الجزء السفلي منه، جدولاً مليئًا  بالأتربة ومياه الصرف الصحّي.26

يتأثر نهر الأردن السفلي بشكل خاصّ بالممارسات الإسرائيليَّة لأنَّه يتغذَّى من مصبّ بحيرة طبريا ونهر اليرموك. كذلك،  يتأثر نهر اليرموك سلبًا بنهب إسرائيل لموارد المياه الفلسطينية والعربيَّة، إذ يقع منبَعه في سوريا ويُعتبر  أكبر رافد لنهر الأردن. تُعَدُّ سوريا والأردن وفلسطين المُحتلّة (إسرائيل حاليًا) الأطراف الثلاثة المتشاطئة (أي الدول التي تشترك في حدودها مع نهر واحد أو أكثر) التي تعتمد على نهر اليرموك، مع استفادة سوريا من الحصة الأكبر، فيما يتقاسم الأردن وإسرائيل الباقي. أمَّا الفلسطينيون، فيُحرمون بشكل كامل من الوصول إلى مياه  نهر اليرموك. ولا يُغفل إنَّه وقبل عام 1967، كان لإسرائيل وصول محدود إلى النهر، لكنَّها بعد احتلال الجولان في ذلك العام، بسَطت سيطرتها الإقليمية المباشرة على مسافة ميليْن آخرين من النهر، مستغلَّةً المزيد من مياهه. وعلى طبق من ذهب، هيّأت معاهدة السلام الإسرائيليَّة الأردنية المُوَقَّعة عام 1994 للهيمنة الإسرائيليَّة على المزيد من مياه النهر، وحرمان الأردن الاستفادة منها.  كما أرغمت إسرائيل الأردن على قبول إنشاء البنية التحتيّة لضمان التحكم والسيطرة على التدفّقات الزائدة في نهر اليرموك.27                                          

تضمن البنية التحتية للسدود والآبار التي بنتها سوريا (التي ترفض إسرائيل منحها حصّتها من نهر الأردن) استخدامَ السوريّون معظم مياه نهر اليرموك. وحسب سوريا، فإنشاء تلك البنية التحتيّة هَدَفَ إلى الحدِّ مِنْ استغلال إسرائيل لنهر اليرموك، خاصة  في ظلِّ رفضها الانسحاب منْ الجولان. انتهى ذلك، إلى جانب الاستغلال الإسرائيلي لمياه اليرموك وقبول الأردن باتفاقية مجحفة وعدد لا يُحصى من المسائل البيروقراطية الأخرى، إلى نقص كمية المياه التي يمكن للأردن الاستفادة منها في نهر اليرموك. كما سيؤدِّي التراجع في تدفّق النهر بسبب انخفاض هطول الأمطار إلى انخفاض حصَّة الأردن بشكل لافت خلال السنوات القادمة.28

يتجلى أنَّ الخطاب البريء والخَيِّر وراء مشروع الازدهار الأزرق يُخفي طيَّاته تعاظم النهب الإسرائيلي من حصص المياه الفلسطينيّة والعربيَّة. وبدلاً عن مصادرة المياه وتسليعها، من خلال بيعها للأردن، ووجوب إعادة إسرائيل المياه المسلوبة التي تواصل تخزينها، فعلى العكس مِنْ ذلك تمامًا، تواصل إسرائيل إنكارها، مِن خلال مشروع الازدهار الأزرق، المسؤولية عن شُحِّ المياه في الأردن، بلْ وتدَّعي تقديمها الحلّ لذلك، مُصوِّرةً نفسها كراعية بيئيّة وقوّة مائيّة إقليميّة.

Illustration by Othman Selmi

قهرُ قلب الظلام (العربي): مجازُ الغسل الأخضر الإسرائيلي

يعزّز مشروعا الازدهار الأخضر وENLT-New Med – كمشروعين للطاقة المُتجدِّدة ضمن أجندة التطبيع البيئي – صورة إسرائيل كمركز لتكنولوجيا الطَّاقة المُتجدِّدة الخلّاقة. وفي ثنائها على إسرائيل في هذا الصدد، تُغفل الرواية السائدة أنَّ ابتكاراتها في قطاع الطَّاقة مبنيّة على استعمار الطَّاقة (الخضراء) في فلسطين والجولان. يشير استعمار الطَّاقة إلى الدول والشركات الأجنبية التي تنهب موارد وأراضي البلدان والمجتمعات في الجنوب العالمي وتستغلها لتوليد الطَّاقة لاستخدامها والانتفاع منها. ولتأبيد الانقسام بين الشمال والجنوب، يتسبّب استعمار الطَّاقة – أيضًا – في تدمير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للسكّان المحلّيين في الجنوب، وكذلك بيئاتهم. ويأتي الاستيلاء على المصادر الخضراء للطاقة ونهبها استعمارًا للطاقة الخضراء، مع الحفاظ على نفس البُنَى السياسية والاقتصادية والاجتماعية لعدم تكافؤ القوى بين الشمال والجنوب.29 يتأصَّلُ استعمار الطَّاقة في النموذج الرأسمالي الكولونيالي للقوّة والاستغلال ونزع الصفة الإنسانية والغيريّة، ويستمرّ – أيضًا – بعد عقود من دخول أجزاء كثيرة من العالم حقبة ما بعد الاستعمار.30 ويُعدُّ استعمار الطَّاقة في فلسطين والجولان، بما في ذلك من خلال المصادر الخضراء للطاقة، أحد أوجه الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إذ تستخدمه إسرائيل ضمن وسائل أخرى، لنزع ملكية الفلسطينيّين والجولانيّين (الـ 26000 سوري الذين يعيشون حاليًا في الجولان المحتلّ مِن إسرائيل) ولضمان عزلهم في جيوب أصغر من أيّ وقت مضى، وإتاحة المزيد من الهيمنة الإسرائيليَّة اليهوديّة على أراضيهم. وبالنظر إلى كُلٍ مِن "الازدهار الأخضر" وENLT-New Med  كمشاريع استعمارية للطاقة، فإنَّها مكّنت إسرائيل مِن مواصلة مشروعها الاستعماري الاستيطاني وتعزيز نفوذها الجيوسياسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تحت غطاءٍ من السرديّة الخضراء.             

الازدهار الأخضر

وفقًا لشروط "الازدهار الأخضر"، سيبيع الأردن لإسرائيل كُلّ الكهرباء المُولَّدَة من مزرعة الطَّاقة الشمسيَّة التي سيتمُّ بناؤها على أرضه مقابل 180 مليون دولار سنويًا، تُقسَّم بين الحكومة الأردنية وشركة "مصدر" الإماراتية التي ستبني مزرعة الطَّاقة الشمسيَّة. يبدو الأساس المنطقي أنَّ إسرائيل لن تستخدم طاقتها لتشغيل محطة تحلية المياه التي ستزوّد الأردن بـ 200 مليون متر مُكعَّب من المياه سنويًا،  تحقيقًا للهدف الإسرائيلي المتمثّل في تعزيز قطاعيْ الطَّاقة وتحلية المياه سويّة. وتُعَدُّ تحلية المياه، التي تسعى إسرائيل إلى الاعتماد عليها كمصدر رئيسي للمياه بحلول عام 2030، كثيفة الاستهلاك للطاقة،31 إذ تُشكِّل ما نسبته 3.4% من استهلاكها الاجمالي للطّاقة. بالتالي، تسعى إسرائيل إلى زيادة وصولها إلى مصادر بديلة للطّاقة، وقطعًا سيوفّر "الازدهار الأخضر" أحد هذه المصادر.32  

لا تسمح الصفقة للأردن، الذي تُشكّل وارداتُه من الغاز الأحفوري نسبة 75% من مصادر الطَّاقة فيه، بالحصول على الطَّاقة مِن المشروع والاستفادة من قطاع الطَّاقة الخاص به.33  بالتالي، وبينما سيتم استخراج الطاقة الشمسية في البلاد، سيستمر الاعتماد الكبير على الغاز الأحفوري المستورد. وسيواصل الأردن في تلقّي الغاز من إسرائيل، التي أصبحت منذ عام 2020، خاصة بعد إبرام اتفاقية الغاز سيِّئة الصيت بين البلدين، مصدرًا رئيسيًا للغاز الأحفوري في البلاد. وفقًا لصفقة الـ 10 مليارات دولار، سيزوّد الأردن بـ 60 مليار مترًا مُكعَّبا مِن الغاز على مدى 15 سنة، مِن حقل الغاز الطبيعي ليفياثان في البحر الأبيض المتوسط الواقع تحت السيطرة الإسرائيليَّة.34 وهكذا، يبقى الأردنُ رهينةً لواردات الغاز الطبيعي (تحديدًا مِن إسرائيل)، بينما يُصدّر طاقته الخضراء مِن أجل الحصول على المياه المُحلّاة مِن إسرائيل!35 

بالطريقة التي صُمِّمَ بها الازدهار الأخضر لتمكين قطاع الطَّاقة المُتجدِّدة في إسرائيل مع الحفاظ على اعتماد الأردن على مصادر الطَّاقة الأحفورية الإسرائيليَّة، فإنَّه أحد أشكال استعمار الطَّاقة – أو بشكل أكثر تحديدًا، الاستعمار الأخضر. يتجلّى ذلك في حقيقة أنَّ مزرعة الطَّاقة الشمسيَّة ستُبنى في الأردن وليس في إسرائيل. وتستخدم إسرائيل خطاب الغسل الأخضر مِن أجل التغطية على الاستعمار الأخضر الذي تجسده مزرعة الطَّاقة الشمسيَّة المُتجدِّدة المزمع بناؤها في الأردن. لنأخذ في الاعتبار هذا الاقتباس لعام 2021 مِن موقع آكسيوس الإخباري الأمريكي (Axios): "كان المنطق هو أنَّ إسرائيل بحاجة إلى طاقة متجدِّدة لكنَّها تفتقر إلى المساحات الشاسعة مِنْ الأرض الضرورية لمَزارع الطَّاقة الشمسيَّة الضخمة، والتي يمتلكها الأردن".36

وهذا ما كررته كارين الحرّار، وزيرة الطَّاقة الإسرائيليَّة السابقة: "سيساعد الأردن، الذي يمتاز بوفرة المساحات المفتوحة وأشعّة الشمس، في دفع انتقال إسرائيل إلى الطَّاقة الخضراء وتحقيق الأهداف الطموحة التي وضعناها. كما ستساعد إسرائيل، التي تمتلك تقنية تحلية مياه ممتازة، في معالجة شح المياه في الأردن".37

يُستوحى هذا التصنيف الهرمي للأرض،38 بحيث يُنظر إلى الصحراء باعتبارها أدنى مرتبةً مِن الأرض المزروعة / الخضراء (المتفوقة)، مِن الخطاب الصهيوني الذي يصوّر إنشاء إسرائيل فوق أنقاض مئات القرى الفلسطينية المدمرة على أنَّه استصلاح للأرض. يسعى هكذا خطاب إلى إضفاء الشرعية والطابع الأخلاقي على أفعال إسرائيل، إذ يجعل منها  وكيلاً أخلاقيًّا وتقدّميًّا على كفاءة الأرض، وليس نظامًا استيطانيًّا استعماريًّا وأبارتهايد غير أخلاقي.

تماشيًا مع الخطاب الخاص بالغسل الأخضر واستصلاح الأرض، فإنَّ بناء محطة الطَّاقة الشمسيَّة تُسوّق له إسرائيل كمعروفٍ تقدِّمه للأردن، فبموجب "اتفاقيات إبراهيم" الكريمة، ستتحول الأراضي القاحلة "غير المنتجة" في الأردن إلى أراضٍ منتجة بفضل التنمية البيئيّة لإسرائيل وإحسانها. في الواقع، يوفّر مشروع "الازدهار الأخضر" الغطاء الأخلاقي ويضفي الشرعية على الاستيلاء على البيئة والاستعمار الأخضر ويصوِّرهما كأعمال تقدميّة تستحق الثناء لا الإدانة.

إي إِن إِل تي – نيوماد


يقع تصوير إي إِن إِل تي – نيوماد كذلك على كونها دليلاً على التفوق البيئي والأخلاقي لإسرائيل على جيرانها العرب، بما في ذلك الأردن. بعد التوصُّل لاتِّفاق لتطوير مشاريع الطَّاقة مع الأردن والمغرب والإمارات العربيَّة المُتَّحدة والمملكة العربيَّة السَّعوديّة ومصر والبحرين وسلطنة عمان، ذكرت إي إِن إِل تي أنَّ المشروع "سيسلّط الضوء على التجربة والخبرة الكبيرة للشركتين الإسرائيليتين في مجال الطَّاقة".39  تسليط الضوء على "تجربة" و"خبرة" إسرائيل يُبقي في الظلام تجارب النضالات الفلسطينيَّة والجولانيّة ضدَّ الاستعمار الإسرائيلي للطاقة. على الرغم من تقديم إي إِن إِل تي – نيوماد نفسها كمساعدة في تلبية احتياجات الطَّاقة لسبع دول عربية، إلا أنَّه يجب – كذلك – إدراك نشاطها كاستعمار للطاقة، وذلك لسببين رئيسيين: أولاً؛ تهدف إي إِن إِل تي – نيوماد إلى زيادة اندماج إسرائيل في مجالات الاقتصاد والطَّاقة في المنطقة العربيَّة، مِن موقعِ مهيمِن، وبالتالي خَلق تبعيّات جديدة (عبر الوصول إلى الطَّاقة والتحكم فيها) تُعزّز أجندة التطبيع وتضع إسرائيل كشريك لا غنى عنه. ثانيًا؛ سيسمح ذلك لـ إي إِن إِل تي ونيوماد، وهما شركتان منخرطتان بعمق في مشاريع الطَّاقة الإسرائيليَّة، بتطبيع أنشطتهما الاستعماريَّة وتمويلها  في فلسطين المُحتلّة والجولان. تدير إي إِن إِل تي العديد من مشاريع الطَّاقة المُتجدِّدة في الجولان، بدعم من الحكومة الإسرائيليَّة، من ضمنها "إيميك هاباشا" و"رواخ بيرشيت" و"إيميك هاروشوت"، كما تمتلك على الترتيب حصصًا  بنسبة 41٪ و60٪  في المشروعيْن الأوّليْن40 الممولين من قِبل "اتحاد" يقوده بنك "هبوعليم"41، المُدرَج ضمن قاعدة بيانات الأمم المُتَّحدة لمشاريع الأعمال والشركات المتورطة في المستوطنات الإسرائيليَّة غير القانونية في الضفة الغربية. علاوة على ذلك،  تنخرط إي إِن إِل تي في مشاريع الطَّاقة المُتجدِّدة في تلك المستوطنات، وتعمل على تطوير مشروع توربينات الرياح بقدرة 42 ميجا وات (تمتلك فيه ما نسبته 50.15%) في غابة يتير الواقعة في صحراء النقب وأجزاء من الضفة الغربية.43

تأتي مشاريع مزارع الرياح في الجولان وفي أجزاء مِن الأراضي الفلسطينية المُحتلّة ضمن خطط إسرائيل لزيادة مصادر الطَّاقة المُتجدِّدة. احتجّ أبناء الجولان طيلة سنوات من أجل فرض سيادتهم على أراضيهم ومواردهم، إذ يرون في تلك المشاريع أداةً إسرائيلية أخرى للاستيلاء على أراضيهم.44 وتسيطر إسرائيل بالفعل على 95% من هضبة الجولان، وذلك لصالح حوالي 29000 مستوطن إسرائيلي غير شرعي يعيشون في 35 مستوطنة في المنطقة.45 تدفع توربينات الرياح، كمشروع استعماري أخضر، نحو المزيد من زعزعة العلاقة المستدامة بين سكان الجولان وأراضيهم، فمنذ بدء البناء فرضت السلطات الإسرائيليَّة قيودًا على وصول الجولانيّين إلى أراضيهم الزراعية. وستشمل المشاريع 3600 دونم (890 فدانًا) من بساتين التفاح والعنب والكرز التابعة للجولانيّين، ما يجعل معركة الجولانيّين ضدَّ مزارع الرياح تلك، فاصلاً أصيلاً من المقاومة المستمرة منذ عقود ضدَّ التهجير الاستعماري الاستيطاني ونهب الموارد وإنكار سيادتهم الأصلية وهويتهم المرتبطة بالأرض.46

لا تقلّ شركة نيوماد إينيرجي، المتخصِّصة في استخراج الغاز الطبيعي من شرق البحر الأبيض المتوسط، تواطئًا عن إي إِن إِل تي في ترسيخ الفصل العنصري الإسرائيلي والاستعمار الاستيطاني. وبعدما كان اسمها في السابق "ديليك دريلينغ"، غيّرت الشركة اسمها في عام 2022 إثر توسع أعمالها في الدول العربيَّة، وفي مقدِّمتها الأردن والإمارات العربيَّة المُتَّحدة ومصر.47 وتُعدّ نيوماد إينيرجي رائدة في قطاع الغاز الطبيعي الإسرائيلي في شرق البحر الأبيض المتوسط، ومُشَارِكة في معظم الاكتشافات الإسرائيليَّة للغاز في البحر الأبيض المتوسط خلال الثلاثين سنة الماضية. ويأتي حقل ليفياثان أبرز تلك الاكتشافات عام 2010، ويُعدُّ أكبر خزّان للغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط، حيث تمتلك شركة نيوماد إنيرجي حصة تشغيلية تبلغ 45.3%.48 قبل ذلك وفي عام 2009، اكتشفت الشركة بالتعاون مع شركة شيفرون، حقل تَمار للغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط أيضًا.49 ويحتوي حقلا الغاز (ليفياثان وتَمار) معًا على ما يقدر بنحو 26 تريليون قدم مُكعَّب مِنْ الغاز الطبيعي، ما رفع أسهم إسرائيل في سوق الطَّاقة الإقليمي والعالمي، ومَثَّل لها مصدرًا للقوة الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة وخارجها.50 ومِنْ المتوقع وفاء ذلك لاحتياجات إسرائيل من الكهرباء لمدة 30 عامًا، وجعلِها مُصدِّرًا إقليميًا للغاز (بما في ذلك نحو الاتحاد الأوروبي – خاصة الآن، في سياق الحرب الدائرة في أوكرانيا) . وكما ذكرنا سابقًا، تستورد كلٌ مِنْ مصر والأردن الغاز الإسرائيلي من حقليْ ليفياثان وتمار.51

يتواصل إنكار إسرائيل لسنوات عديدة إعلانَ لبنان أنَّ جزءًا من حقل ليفياثان يقع ضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة.52 إلى جانب رفضها – أيضًا – حصّة لبنان في حقل كاريش، وهو حقل غاز آخر اكتشفته شركة نيوميد إينيرجي عام 2013. 53 وكان الطرفان توصلا في عام 2022 إلى اتفاقية غير عادلة، بوساطة الولايات المُتَّحدة، ضمنت إسرائيل بموجبها حقّ الوصول الكامل إلى حقل كاريش.54 في المقابل، لا يستطيع لبنان سوى تطوير حقل قانا، وهو حقل غاز آخر متنازع عليه في البحر الأبيض المتوسط والذي يُحتمل احتوائه قرابة 100 مليار متر مُكعَّب من الغاز الطبيعي، مع دفع بعض إتاوات مُتَّفق عليها لإسرائيل. تعكس تلك الاتفاقية علاقات القوة غير المتكافئة بين لبنان وإسرائيل وداعمتهما المخلصة، الولايات المُتَّحدة الأمريكية.55 في غضون ذلك، وردًا على مطالب لبنان، كثَّفت إسرائيل عسكرتها للبحر الأبيض المتوسط وزادت من حضور سفنها الحربية.56 على الرغم من أنَّ نيوميد إنيرجي تعمل على تأجيج الخلاف حول حقول الغاز تلك، وتعزز من موقف القوة الاستعماريَّة الاستيطانية ذات التسليح العالي على الصعيدين الإقليمي والعالمي، غير أنَّها في الوقت ذاته تؤكد التزامها بتطوير مصادر الطَّاقة الخضراء.57

إنَّ المشغّل والمفاوض الرئيسي مع إسرائيل على حصّتها في حقل قانا هي شركة توتال إنيرجي الفرنسية، والتي تمتلك حصة بنسبة 35% من الحقل. وتُعد توتال إنيرجي أحد أطراف ائتلاف يعمل في حقل قانا ويضمّ شركة إيني الإيطالية وشركة قطر للطاقة المملوكة للدولة، والتي تمتلك حصة 30% في المشروع (حلّت شركة قطر للطاقة محل شركة نوفاتيك الروسية، التي تمَّ استبعادها بسبب العقوبات المفروضة على روسيا عقب غزوها أوكرانيا).58 يُشار إلى أنَّ الحكومة الإسرائيليَّة وافقت على دور قطر للطاقة في تطوير حقل قانا،59 وهو ما يجعل قطر متواطئة في التطبيع مع إسرائيل في مجال الطَّاقة. هذا التطبيع العلني مِن قِبل قطر، التي انخرطت منذ التسعينيات في التطبيع مِن تحت الطاولة، يضرّ بالفلسطينيّين،60 ويعكس نمطًا يمكن ملاحظته فيما يتعلق بالدول العربيَّة الأخرى، وواقع أنَّ مصر والمغرب والأردن ودولة الإمارات العربيَّة المُتَّحدة مشاركةٌ في العديد من مشاريع الطَّاقة (بما في ذلك المشاريع الخضراء) مع إسرائيل أو الشركات الإسرائيليَّة، يعكس أنَّ تلك العلاقات المُطبَّعة لم تَعُد تُعتبر فضيحةً بالنسبة للقادة العرب.

ثَمَّة نقطة أخرى مُهمَّة فيما يتعلّق بمصر، وهي حقيقة أنَّ غاز ليفياثان الإسرائيلي، الذي اشترته الحكومة المصريَّة، يتمُّ استخراجه ونقله من خلال ممارسات إسرائيل العنيفة وغير القانونية للسيطرة على المنطقة الاقتصادية الفلسطينيّة الخالصة،61 والتي تتجلّى في هجمات ممنهجة على الصيادين الفلسطينيّين من قبل البحرية الإسرائيليَّة.62
 

تتجاوز علاقات مصر مع إسرائيل فيما يتعلق بالغاز الطبيعي توفير الكهرباء للبيوت المصرية. فمصر وإسرائيل، إلى جانب قبرص واليونان، هما الآن ضمن  تحالف يهدف إلى تزويد أوروبا بالغاز من البحر المتوسط ، كجزء من جهود الاتحاد الأوروبي لإنهاء الاعتماد على الغاز الروسي.  إذ يهدف التحالف إلى بناء نظام خطوط أنابيب جديد لنقل الغاز مِن إسرائيل وقبرص إلى منشآت التسييل في مصر، حيث تتمُّ عملية تسييله ثُمَّ نقله إلى أوروبا بواسطة السفن/الناقلات. كذلك ويتضمن المشروع بناء مرفق تسييل على الشاطئ الشرقي لقبرص، وإنشاء منشأة تسييل عائمة كجزء من توسيع حقل ليفياثان.63 ولم يتَّضح بعد ما إذا كان خط الأنابيب ونظام التسييل المقترح سيحلّان محلّ خطّ أنابيب شرق البحر الأبيض المتوسط (إيست ماد) المُخطَّط لإنشائه، ولكن يُتوقع أنْ يكون البديل لـ إيست ماد، الذي وقع التشكيك في جدواه.64

بصرف النظر عن الأشكال التي تتخذها مشاريع الطَّاقة في البحر الأبيض المتوسط، تبقَى هناك حقيقتان مهمتان: أولاً؛ لا يمكن فصل المعاناة تحت الحصار والتجارب المؤلمة مِن العنف ونزع الصفة الإنسانية التي يعاني منها الصيّادون الفلسطينيّون وأهالي قطاع غزة عن حقول الغاز شديدة العسكَرة التي تسيطر عليها إسرائيل في البحر الأبيض المتوسط، وعن المشاريع المرتبطة بها. ثانيًا؛ يتجلى نفاق الاتحاد الأوروبي مرة أخرى حين يعامل شعبيّ فلسطين والجولان باعتبار أقلّ إنسانية من الأوكرانيين من خلال استيراد الغاز الإسرائيلي كجزء مِن الجهود لمحاسبة روسيا على غزوها لأوكرانيا. أمَّا بالنسبة لمصر والدول العربيَّة الأخرى المطبّعة، فهي متورطة علنًا الآن، مِن خلال إبرامها صفقات طاقة قذرة في البحر الأبيض المتوسط، في نزع إنسانية الفلسطينيّين والسوريين بشكل منهجي على أيدي كُلٍ من إسرائيل والاتحاد الأوروبي. إنَّ نزع الصفة الإنسانية عن المستعمَر، وتواطؤ الدول العربيَّة في ذلك، يتمّ غسلهما باللون الأخضر مِن قِبل الاتحاد الأوروبي وإسرائيل عبر تعاونهما فيما يُصوَّرانه انتقالاً إلى مستقبلٍ أكثر خُضرة واقتصادٍ منخفض الكربون. وفي ذلك الصدد، التضليل هو أقلّ ما يمكن أنْ يوصف به تصوير الغاز الأحفوري كمصدر نظيف للطاقة.65

Illustration by Othman Selmi

التطبيع البيئي: هجوم عنيف على حق الفلسطينيين في تقرير المصير


يسمح التطبيع البيئي لاسرائيل بإعادة تشكيل موقعها في قطاعيْ الطاقة والمياه على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وبالتالي تعزيز قوتها السياسية والدبلوماسية في المنطقة والعالم. مع تفاقم أزمة المناخ والطاقة، قد تبدأ الدول التي تعتمد على الطاقة والمياه الاسرائيلية (بالإضافة إلى التكنولوجيا) في النظر إلى الكفاح الفلسطيني على أنه مسألة أقل أهمية من أمن المياه والطاقة لديها. وبذلك يصبح التطبيع البيئي معزّزًا لدور الغسل الأخضر الاسرائيلي كآلة لكسب المال للشركات الاسرائيلية، في حين يقوّض التحوّل الزراعي والطاقي العادليْن في فلسطين، المرتبطيْن ارتباطًا وثيقًا بالنضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير.

استطاعت شركة ميكوروت، وهي لاعب رئيسي في قطاع تحلية المياه الاسرائيلي، أن تموقع نفسها كشركة رائدة في قطاع تحلية المياه وحلوله على مستوى العالم، جزئيًا من خلال رواية اسرائيل عن الغسل الأخضر. على سبيل المثال، شركة ميكوروت مسؤولة عن 40 في المائة من تحلية مياه البحر في قبرص.64 تدرّ تقنيتها و"خبرتها" ملايين الدولارات من خلال مشاريع حلول المياه التي تمّ تطويرها في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في الجنوب العالمي.65 تُموِّل هذه الأموال ممارسة الفصل العنصري المائي ضد الشعب الفلسطيني، من قِبَل الشركة وحكومة اسرائيل، حيث تلعب ميكوروت دورًا مهمًا في انشاء البنية التحتية الاسرائيلية للفصل العنصري المائي، من خلال السيطرة على معظم موارد المياه الفلسطينية في الضفة الغربية وتحويلها نحو مستوطنات اسرائيلية غير شرعية (بالإضافة إلى دور الشركة في سرقة مياه نهر الأردن).66 وقع إنشاء البنية التحتية للشركة من الآبار وخطوط الأنابيب الالتفافية بطريقة تضمن عدم وصول الفلسطينيين الذين يعيشون في المنطقة (ج) من الضفة الغربية إلى المياه.67 في الوقت نفسه، تساعد الشركة الجيش الاسرائيلي على مصادرة خطوط أنابيب المياه الفلسطينية والوسائل البديلة الأخرى للوصول إلى المياه في المنطقة (ج).68 من خلال ممارسة الفصل العنصري المائي، تخلق ميكوروت بيئة قسرية تهدف إلى إجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم وتوسيع المستوطنات الاسرائيلية غير القانونية. يعطّل تطبيق ميكوروت النشط لسياسات الفصل العنصري في المياه الاسرائيلية وظيفة الأرض كمصدر للعيش يمكن من خلاله للفلسطينيين الحفاظ على حياتهم وهويتهم المرتبطة بالأرض. يهدد ذلك القطاع الزراعي الفلسطيني والسيادة الغذائية، وهما عنصران أساسيان لانتقال زراعي عادل. على سبيل المثال، لم يعد بمقدور المجتمعات الزراعية الفلسطينية في غور الأردن الاعتماد على الزراعة لكسب عيشها بسبب القيود الاسرائيلية المفروضة على وصول الفلسطينيين إلى المياه والأراضي.69

المشهد ذاته يمكن رؤيته في قطاع غزة المحاصَر، حيث دمّرت اسرائيل القطاع الزراعي منذ عقود، وأدّى الحصار المفروض على غزة منذ 2007 إلى تقييد وصول المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم الزراعية وإلى تفاقم أزمة المياه الحادّة في القطاع.70

إن هذا الترسيخ لاستعمار الطاقة الاسرائيلي والفصل العنصري واضح أيضًا في وظائف الغسل الأخضر لـ الازدهار الأخضر و إي ان ال تي – نيو ماد. تُنكر اسرائيل على الفلسطينيين (والجولانيين) المستعمَرين سيادتهم على مواردهم الطاقيّة وتُديم أسْرَهم في سوق الطاقة لديها. إن السيطرة الاسرائيلية على موارد الطاقة الفلسطينية والجولانية هي أداة فعّالة للسلب الاستعماري الاستيطاني والاضطهاد. في الوقت نفسه، يغرق قطاع غزة، غير البعيد عن حقلي ليفياثان وتمار للغاز، في الظلام منذ سنوات بسبب حرمان اسرائيل سكان غزة من الوصول الكامل إلى الكهرباء، وتتفاقم أزمة الكهرباء في قطاع غزّة خلال الاعتداءات والمجازر الاسرائيلية المتواصلة.71 إن الكهرباء والمياه والعنف وعدد لا يحصى من الأدوات الأخرى هي جزء من الآليات الاستعمارية الاستيطانية الاسرائيلية التي تُستخدم للسيطرة على الفلسطينيين في غزة داخل "الغيتوهات" المخصّصة لهم. تزوّد مشاريع التطبيع البيئي والغسيل الأخضر اسرائيل بالدعم المالي لترسيخ سياسات العزل بحق ملايين الفلسطينيين في قطاع غزة وخارجه.

يقبع سوق الطاقة الفلسطيني في الأسر الاسرائيلي، إذ يتحمّل ساكنو المنطقة (ج) من الضفة الغربية المحتلة العبء الأكبر من اعتماد الفلسطينيين على اسرائيل في مجال الطاقة: فهم محرومون من الوصول إلى شبكة الكهرباء في المنطقة، والتي طورتها اسرائيل لخدمة المستوطنات الاسرائيلية غير القانونية. كما ترفض اسرائيل إصدار تصاريح للفلسطينيين لبناء الألواح الشمسية التي يمكن أن توفر مصدرا بديلا للطاقة. وبالتالي، يُجبر الفلسطينيون على بناء ألواح شمسية (غالبًا ما تمولها المنظمات غير الحكومية والاتحاد الأوروبي) دون تصاريح اسرائيلية، الأمر الذي تستخدمه اسرائيل بعد ذلك كذريعة لمصادرتها وهدمها.72 بين عاميْ 2001 و2016، تسبّبت السياسات والممارسات الاسرائيلية في المنطقة (ج) بخسارة للفلسطينيين تُقَدَّر بـ 65 مليون يورو من الدعم الممول من الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك منشآت الطاقة الشمسية.73 تم إنشاء قطاع الطاقة الشمسية في المنطقة (ج) من قِبل المجتمع المدني الفلسطيني من أجل تعزيز صمود المجتمعات المحلّية في المنطقة، وتستخدم اسرائيل تقويض التنمية كتكتيك لتهجيرهم بالقوة.74

مع حدوث ذلك  كله، يشهد قطاع الطاقة الشمسية الاسرائيلي ازدهارًا بسبب توسّع المستوطنات غير القانونية ومزارع الطاقة الشمسية في جميع أنحاء الضفة الغربية. ففي عام 2016، بلغت عائدات اسرائيل من الكهرباء المُولَّدَة من مزارع الطاقة الشمسية الموجودة في كل من الضفة الغربية وداخل اسرائيل 1.6 مليار شيكل (حوالي 445 مليون دولار أمريكي). ومع حلول عام 2017، قامت اسرائيل بتشغيل أربعة حقول للطاقة شمسية واسعة النطاق في الضفة الغربية. جميع هذه المزارع متصلة بشبكة الكهرباء الوطنية الاسرائيلية، التي توفّر الكهرباء للمنازل الاسرائيلية في المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية وداخل اسرائيل.75 وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ قوة قطاع الطاقة الشمسية الاسرائيلي تكمن - وفي تناقض صارخ – في حقيقة أنّ عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين (من الدرجة الثانية) في اسرائيل الذين يعيشون في 35 قرية "غير معترف بها" في صحراء النقب لا يحصلون على الكهرباء (أو الماء والرعاية الصحية والتعليم)، وذلك كجزء من السياسات الاسرائيلية التمييزية التي جرى تصميمها لإرغامهم على ترك أراضيهم، ومن أجل استبدال قراهم بمستوطنات لليهود فقط، وبأشجار الصنوبر التي غرسها الصندوق القومي اليهودي.76

Illustration by Othman Selmi

الصمود البيئي: رؤية من أجل انتقال عادل في فلسطين

من بين التعريفات المتعدّدة لكلمة "صمود"، يعتمد هذا الفصل تعريفها كنمط من الممارسات اليومية لمقاومة الصعوبات اليومية للحياة والتكيّف معها في ظلّ الحكم الاستعماري الاستيطاني الاسرائيلي.77 يشير الصمود أيضًا إلى إصرار الشعب الفلسطيني على البقاء في أرضه والحفاظ على هويته وثقافته الفلسطينية في مقاومة السلب الاسرائيلي والمزاعم التي تقدّم المستوطنين اليهود على أنهم السكان الشرعيين الوحيدين للأرض.78 يجمع الصمود البيئي، وهو مصطلح تم تقديمه في هذا الفصل، بين ممارسات الصمود اليومية للفلسطينيين والأدوات الصديقة للبيئة للحفاظ على ارتباط قوي بأرض فلسطين. وتشمل تلك المعرفة الأصلية القائمة على الأرض، والقيم الثقافية والتكتيكات والوسائل التي يستخدمها الفلسطينيون لمحاربة الإعاقة الاستعمارية الاستيطانية الاسرائيلية العنيفة لعلاقتهم المستدامة مع الأرض. يرتكز مفهوم الصمود البيئي على فهم أنّ الحلول المستدامة الوحيدة للأزمات البيئية والمناخية هي تلك التي تدعم سعي الشعب الفلسطيني لتحقيق انتقال عادل في مجاليْ الزراعة والطاقة.

إحدى دراسات الحالة التي يمكننا استخدامها لفهم ما يعنيه الصمود البيئي بشكل ملموس وعملي هي الزراعة البعلية التي يمارسها السكان الفلسطينيون في قرية دير بلّوط. تقع دير بلّوط،71 التي يقطنها أكثر من 3000 نسمة، في محافظة سلفيت في وسط الضفة الغربية، وتبلغ مساحتها الإجمالية حوالي 11898 دونم (2940 فدانًا)، منها 5985 (1،479 فدانًا) أراضٍ صالحة للزراعة. تمّ تصنيف 5.2 في المائة فقط من أراضي القرية على أنها منطقة (ب)، أي تخضع لسيطرة فلسطينية واسرائيلية مشتركة، بينما تقع النسبة المتبقية، 94.8 في المائة، ضمن المنطقة (ج)، التي تخضع للسيطرة الأمنية والمدنية الاسرائيلية الكاملة. تواجه قرية دير بلّوط سياسات وممارسات استعمارية استيطانية لا تُعَدُّ ولا تُحصى تهدف إلى إبعاد القرويين عن أراضيهم. وتشمل تلك الممارسات مصادرة أراضي القرية لبناء الطرق الالتفافية الاسرائيلية، والمستوطنات غير القانونية وجدار الفصل العنصري. كذلك، أقامت اسرائيل حاجزًا عسكريًا على مدخل القرية، حيث تقوم بمضايقة وإهانة الفلسطينيين من قرية دير بلوط والقرى المجاورة. ليس ذلك فحسب، بل يقيّد الحاجز أيضًا حركة البضائع والمنتجات الزراعية من دير بلوط لبيعها في أسواق الضفة الغربية.80

كما هو الحال في أجزاء أخرى من المنطقة (ج)، لدى الفلسطينيون في دير بلوط وصولٌ محدودٌ للمياه والكهرباء مقارنة بالاستهلاك المطلوب، لاسيما مع سيطرة السلطات الاسرائيلية على بئر للمياه الجوفية في القرية. وعلى الرغم الممارسات الاسرائيلية المتواصلة والمتمثلة في أبارتهايد المياه وسرقة الأراضي، يواصل الفلسطينيون في قرية دير بلوط الحفاظ على أراضيهم الزراعية.81 وقد أصبح هذا ممكنا في المقام الأول من خلال الالتزام بممارسة الزراعة المطرية. يمكن تعريف الزراعة المطريّة في فلسطين (المعروفة باسم بَعْلية في اللغة العربية العامية)، على أنها "مجموعة من استراتيجيات الزراعة والحراثة ووقاية النباتات التي تستغل رطوبة التربة لزراعة المحاصيل دون الحاجة لريّها".82 وتشمل كذلك التقنيات التي يستخدمها الفلسطينيون لتجميع المياه أثناء موسم الأمطار، كاستخدام الآبار والمدرجات. تستخدم المجتمعات الزراعية المياه التي جرى تجميعها لري المحاصيل خلال موسم الجفاف الطويل. للزراعة البعليّة أيضًا بُعدٌ روحي، إذ أنّ كلمة بَعْلي مُشتَقَّة من بعل، إله الخصوبة والمطر الذي كان يعبده الأسلاف الكنعانيّون للشعب الفلسطيني. على الرغم من السيطرة الاسرائيلية المستمرة على الأراضي والمياه والحدود والحركة والأسواق، تستمر الزراعة البعلية في فلسطين باعتبارها الشكل الرئيسي للزراعة في معظم الأراضي الزراعية في الضفة الغربية.

إنّ ما يميّز الزراعة البعلية في دير بلّوط عن باقي الضفة الغربية هو مرونة المزارعين وقدرتهم على التكيف مع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتغيرة على مدى قرن من الاستعمار. صفتان رئيسيتان تميزان ديناميكية الزراعة البعلية في دير بلوط: تنويع المحاصيل للاستجابة للتحدّيات التي تواجهها، والدور المركزي للمرأة في الزراعة. من منظور الصمود البيئي، يُعَدُّ تغيير نظام الزراعة وهيكلية العمل في دير بلوط جزءًا من الأساليب والتقنيات والمعرفة التي يطبقها القرويون للحفاظ على علاقتهم بالأرض.

بعد احتلال اسرائيل للضفة الغربية وغزّة والقدس الشرقية عام 1967، وما نتج عن ذلك من انفتاح لسوق العمل الاسرائيلي أمام آلاف الرجال الفلسطينيين، تغيّرت بُنية العمالة في المجتمع الفلسطيني، بما في ذلك على شكل زيادة دور المرأة في القطاع الزراعي83: شهدت دير بلوط دورًا أكبر للمرأة في الزراعة مقارنة بمناطق أخرى في الضفة الغربية، ومنذ عام 1967 باتت النساء هنّ المزارِعات الرئيسيّات في سهل دير بلوط (المعروف باسم المرج في اللغة العربية العامية) والمناطق الجبلية. وقد صاحب هذا التحوّل تحوّلًا آخر في نظام المحاصيل للتكيف مع التحديات المختلفة. حتى عام 1948، كان سهل دير بلوط وتلالها يُزرع بالقمح المحلي والشعير والسمسم والتبغ والذرة وأشجار الزيتون. بعد إنشاء دولة اسرائيل عام 1948، بدأت زراعة محاصيل جديدة في القرية، جلّها مناسبة للزراعة البعلية، متأثرة بوصول اللاجئين الذين نزحوا من البلدات الساحلية المجاورة والذين جلبوا معهم بذورًا مختلفة، إلى جانب خبرتهم في زراعة المحاصيل الجديدة، والتي شاركوها مع القرويين المحليين. ويشمل نظام الزراعة الجديد محاصيل الثوم والبامية والطماطم والبصل والبطيخ والشمّام، وسمح للقرويين بتنويع المحاصيل التي يزرعونها ويعتمدون عليها في معيشتهم.

إثر ذلك، خلال سبعينيات القرن الماضي، استبدلت النساء في دير بلّوط القمح والحبوب الصغيرة الأخرى بأشجار الزيتون في الأجزاء الجبلية من القرية. ومن مزاياها بالنسبة للفلسطينيين أنّ أشجار الزيتون لا تتطلب تواجدًا دائمًا للمزارع. في الواقع، يستخدم الفلاحون الفلسطينيون الذين يواجهون عقبات اسرائيلية للوصول إلى أراضيهم أشجار الزيتون كسلاح للحفاظ على وجودهم على الأرض. علاوة على ذلك، تُعدّ أشجار الزيتون أكثر مرونة وقدرة على التكيّف مع التغيّرات المناخية إذا ما قورنت بالمحاصيل الأخرى. من خلال زراعة أشجار الزيتون، تمكنت النساء من تخفيف عبء الزراعة عنهنّ في ظلّ غياب الرجال مع الاستمرار في جنْيِ الأرباح، خاصة مع ازدياد الطلب على زيت الزيتون في ظلّ تقلص مساحات كروم الزيتون بسبب التوسع الاستيطاني الاسرائيلي.

تواصل النساء الفلسطينيات إدخال محاصيل جديدة إلى السهل للاستجابة للظروف المتغيرة، بما في ذلك الفقّوس (الخيار الأرمني) المُربح. في شهر مايو من كل عام، يتغلبّ الفلسطينيون من جميع أنحاء الضفة الغربية على التشرذم المكاني الذي تفرضه اسرائيل للتجمع في سهل دير بلوط للاحتفال بموسم حصاد الفقّوس.

على الرغم من إغراق اسرائيل السوق الفلسطيني بمنتجاتها الزراعية، كجزء من تبعيّة الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الاسرائيلي، إلّا أنّ المحاصيل المزروعة في دير بلّوط تتمتع بقدرة تنافسية عالية في السوق الفلسطيني. على عكس الزراعة الاسرائيلية، التي تعتمد بشكل كبير على الأسمدة الاصطناعية، فإنّ الزراعة البعلية في دير بلّوط تخلو من المواد الكيميائية، لذا تتمتع محاصيل القرية بمذاق وجودة ممتازين.

كمسؤولات عن زراعة الأرض وحصادها منذ عام 1967، تمكّنت نساء دير بلّوط من حمايتها من كُلٍ من المصادرة الاسرائيلية والزراعة الاسرائيلية غير المستدامة ومن إدارة الأراضي، وذلك من خلال التنويع الإبداعي في المحاصيل المناسبة للزراعة البعلية. وبذلك، تمثّل دير بلوط نموذجًا للصمود البيئي الذي يجب أن يوجّه الرؤية الأوسع لإنهاء الاستعمار في فلسطين (بما في ذلك في قطاع الطاقة).

يستند هذا النموذج للانتقال العادل في فلسطين إلى خمسة عناصر رئيسية. أوّلاً، رفض الفلسطنيّين استيعاب الدونية، المبنيّة بشكل منهجي، تجاه مستعمٍريهم من حيث المعرفة والثقافة، وهو شرط أساسي للتحوّل المناهض للاستعمار. تُشكّل النساء في دير بلوط نموذجًا يحتذى به للفلسطينيين، الذين يرون في أنفسهم حُماةً حقيقيين لأرض أجدادهم ورُعاةً لها. وبهذا المعنى، فإنّ الصمود البيئي في غاية الأهمية باعتباره خطابًا مضادًا لخطاب الغسل الأخضر الاسرائيلي، الذي يسعى، كما هو موضح أعلاه، إلى إضفاء الشرعية على نزع الملكية والعنف الاستعماري الاستيطاني الاسرائيلي وإضفاء الصفة الطبيعية عليه. ثانيًا، يجب أن تقوم العلاقة مع الأرض ومواردها الطبيعية على أساس المعاملة بالمثل والاعتماد المتبادل. ثالثًا، يجب التشارك في الأرض والمياه والمعرفة بشكل جماعي، عوضًا عن احتكارها وتسليعها باعتبارها ترفًا للقِلّة. رابعًا، تُعتَبر المرأة فاعلًا أساسيًا لا ثانويًا في النضال ضد الاستعمار من أجل السيادة وتقرير المصير. وأخيرًا، إنّ ممارسة الصمود البيئي متأصّلة في الإيمان بإمكانية دحر الاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي، وبأنّه لا يمكن قهرُ الرغبة الملتهبة لدى المستعمَرين في تقرير مصيرهم.84

Illustration by Othman Selmi

Illustration by Othman Selmi

الخلاصة

هناك علاقة وطيدة بين الغسل الأخضر الاسرائيلي، الذي يتم تعزيزه من خلال التطبيع البيئي، وبين ترسيخ الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني في فلسطين وهضبة الجولان. كما هو موضح أعلاه، فإن التطبيع البيئي غير عادل اجتماعيًا وبيئيًا وغير مستدام لأنه يعيق ديمقراطية الطاقة والسيادة الغذائية وأي محاولة لتحقيق انتقال عادل في مجاليْ الطاقة والزراعة في فلسطين والجولان. مع تزايد العنف الاسرائيلي والتوسّع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يمرّ النضال الفلسطيني ضد الاستعمار بمرحلةٍ حرِجة، حيث تزداد عتَمَة النفق المظلم الذي يمثّل حياة الفلسطينيين تحت القمع الاسرائيلي. مع ذلك، يمكن رؤية شعاع نُورٍ يضيء الطريق الطويل للفلسطينيين نحو التحرير: هذا النور هو المقاومة المتزايدة للشعب الفلسطيني، الذي يرفض أن يُعزَل وأن يُطِمَسَ أو يُجرَّد من انسانيّته.

إن النضال لإسقاط نظام اسرائيل القمعي هو أيضًا جزء من نضال أوسع لتقرير المصير وتحرير الشعوب الأخرى في جميع أنحاء العالم. يمكن إحباط المحاولات الاستعمارية لزيادة عزل فلسطين عن بقية العالم (العربي) عبر التطبيع (البيئي) من خلال القوة الجماعية للعرب والشعوب الأخرى. وتحقيقًا لهذه الغاية، يجب على الحركات الاجتماعية والجماعات البيئية والنقابات العمالية والاتحادات الطلابية ومنظمات المجتمع المدني في المنطقة العربية وخارجها تكثيف احتجاجاتهم ضد حكوماتهم حتى إنهاء علاقات التطبيع مع اسرائيل. يجب أن تتحدّى وسائل الإعلام البديل وسائل الإعلام الرسمي، التي تجعل فلسطين غير مرئية وغير ذات صلة بنضال الشعوب العربية (وغير العربية). يجب أن يكون كُلٌ من الأفراد والمؤسسات، خاصة في المنطقة العربية، أكثر يقظة فيما يتعلّق بالمشاريع والمبادرات الثقافية والأكاديمية والاجتماعية والبيئية. وقبل الانخراط فيها، ينبغي أن يتحقّقوا من مصادر تمويلها والمشاركين فيها وجدول أعمالها. يمكن للحركات البيئية أيضًا أن تدعم النضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير من خلال تثبيت وتثمين الصمود البيئي كمعرفة أصلية من شأنها تقديم حلول واستراتيجيات للتخفيف من أزمة المناخ. أخيرًا، يجب على الحركات الشعبية الدولية أن تزيد من دعمها لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات ضدّ اسرائيل.

Ideas into movement

Boost TNI's work

50 years. Hundreds of social struggles. Countless ideas turned into movement. 

Support us as we celebrate our 50th anniversary in 2024.

Make a donation