دور المال الدولي في تسليع الكهرباء بمصر

يحلل هذا المقال الاقتصاد السياسي لتحرير أسعار الكهرباء في مصر، مع تسليط الضوء على التحولات السياسية الرئيسية فيما يتعلق بتسعير الكهرباء.

Authors

Longread by

Mohamed Gad
Illustration by Othman Selmi

Illustration by Othman Selmi

عاش المصريون خلال فترة 2008-2014 حالة غير مسبوقة من انقطاعات التيّار الكهربائي، تسبّبت في العديد من أشكال المعاناة مثل توقّف الخدمة في المستشفيات أو تعطّل أجهزة التهوية في شهور الصّيف شديدة الحرارة، ناهيك عن تعطّل أنشطة الإنتاج المختلفة.

هذه الانقطاعات كانت انعكاسا لمشكلة نقص التّمويل المتاح لدى الدولة لإجراء عمليات تحديث وتوسيع شبكة إنتاج الكهرباء، والتي تحتكر عملية إنتاج وتوزيع الكهرباء، مع مساحة محدودة للقطاع الخاص في إنتاج الطاقة بنظام B.O.T (Build- Operate- Transfer).

وفي عام 2014، استجابت الدولة لمشكلة انقطاع التيار عن طريق إطلاق خطة عاجلة لتوسيع وصيانة شبكة إنتاج الكهرباء، أعقبتها مشاريع متوالية مع كيانات كبرى، مثل الشركة الألمانية سيمنس، لإنشاء محطات ضخمة لإنتاج الكهرباء من الغاز. وإلى جانب ذلك أجرَت تعديلات تشريعية تسمح للقطاع الخاصّ بالتوسّع في قطاع الطّاقة المتجدّدة، وهو ما ساهم في عودة انتظام التيّار من جديد.

جاء هذا التوسّع بفضل انفتاح قوي للدولة على أنماط من التّمويل التجاري ذي الطابع الدولي، من أبرزها EPC+Finance، والذي تتكفّل من خلاله شركات المقاولات المشرفة على المشروع بالحصول على  قروض دولية لتمويل المحطّات.

وارتبط نجاح ترتيب هذه القروض بتخفيض عجز الموازنة العامة، بهدف تحسين صورة الدّولة «كمقترض» في الأسواق الدولية. وتأتّى هذا التخفيض من مسارات عدّة، كان من أبرزها الاتجاه لإنهاء دعم الدولة لتعريفة بيع «الكهرباء».

ونتيجة لتحرير أسعار الكهرباء، أصبح القطاع الخاص أكثر إقبالا على قطاع الطاقة، ليس فقط كمموِّل لمشروعات البنية الأساسية، بل كذلك كمُنتج للطاقة. وشجّعت الدّولة على ذلك من خلال تعديلات تشريعية.

باختصار، كان تخلّي الدولة عن دعم أسعار الكهرباء لشرائح الدخل المختلفة وعن احتكارها لعملية الإنتاج مدخلا أساسيا لتمكينها من الانفتاح على أنماط جديدة من التمويل للبنية الأساسية.

نسعى في هذه الورقة لقراءة الاقتصاد السياسي لعملية تحرير أسعار الكهرباء، ونُقَدِّم من خلال هذه القراءة تفسيرا للتحول الكبير في سياسات تسعير الكهرباء. وذلك بالتركيز على عنصر التمويل الدولي، المتمثل في القروض التجارية من البنوك الدولية، وكذلك التمويلات من مؤسسات التمويل الدولية؛ مثل صندوق النقد والبنك العالميين. وسنرى كيف أنّ أزمة الطاقة المتفاقمة عام 2014 مهّدت لحلول التمويلات الخاصة محلّ التمويلات العامة، وأنّ ذلك استلزم تغيير دور الأجهزة القائمة على إنتاج الكهرباء في مصر من هيئة مقدّمة للخدمة العامة إلى كيان أشبه بالشركة، يتنافس مع شركات من القطاع الخاص.

كما نفنّد في هذه الورقة الرواية البديلة التي يقدّمها البنك العالمي عن هذا التحول. اذ يروّج البنك أنّ الهدف الأساسي من عملية تحرير أسعار الكهرباء هو وقف دعم الأغنياء وإعادة توجيهه للفئات الأكثر استحقاقا، وبالتالي يرى أن ما جرى كان إصلاحا اقتصاديا واجتماعيا. بينما نرى أنّ جوهر هذا التحرير كان تمهيد الطريق لدخول التمويلات الدولية التي بدا أن حلولها أصبحت ضرورة حتمية تفرضها أزمة انقطاع التيار. ولا ننفي أنّ المكوّن الاجتماعي كان حاضرا في عملية «الإصلاح»، إلّا أنّ دوره لم يكن مركزيا. اذ تسبّبت هذه الإصلاحات في العديد من الضغوط المعيشية، بل إنّ هذا التحرير كان يسير في بعض الأحيان باتجاه معاكس للإصلاح الاجتماعي المنشود.

قبل الوصول إلى التحرير ... عقودٌ من المراوغة

بدأ نشاط إنتاج الكهرباء في مصر  منذ أواخر القرن   التاسع عشر1 من خلال منح امتيازات لكيانات خاصة لإنشاء هذه المرافق داخل البلاد، وخلال أربعينيّات القرن العشرين أصدرت البلاد قانونا2 ينظم هذا النوع من الامتيازات في المرافق العامة. وشهد هذا العقد أيضا انتهاء امتياز فرنسي لمرفق كهرباء بالقاهرة وتحوله إلى منشأة حكومية، وفي عام  1948، تم إنشاء إدارة مختصة بتنظيم قطاع الكهرباء في3 العاصمة المصرية.

وفي هذا السياق، كان القطاع الخاص لاعبا بجانب الدولة في مجال إنتاج الطاقة الكهربائية بمصر، حتى موجة التأميمات في الستينات التي مهدت للسيطرة الكاملة للدولة على هذا القطاع. وارتبطت عملية التأميم بتصورات طموحة للدولة بالتوسّع في التغطية، إذ وقع تأسيس هيئة عامة مسؤولة عن وضع مخطّطات لنشر الكهرباء في مختلف نواحي الجمهورية5، وبعدها بسبع سنوات، أُسِّسَت هيئة متخصّصة لكهربة الريف المصري6.

أتت سيطرة الدولة على نشاط الكهرباء في سياق النموذج الاقتصادي لـ «الاشتراكية العربية»، الذي امتدّ بين الستينيّات ونهاية الثمانينيّات. حيث تسيطر الدولة على إنتاج الخدمات الأساسية وتتعهّد ببيعها للجمهور بأسعار مُدَعَّمَة تتسق مع مستويات الأجور السائدة، والتي تلعب دورا أيضا في تحديدها باعتبارها مساهما رئيسيا في توفير الوظائف بجوار القطاع الخاص7.

ودفعت أزمة تفاقم المديونية الخارجية خلال النصف الثاني من الثمانينيّات الدولة المصرية إلى الدخول في برنامج شامل لتفكيك نموذج «الاشتراكية العربية»، والذي كان مدعوًا بقرضٍ من صندوق النقد الدولي في مطلع التسعينيّات.8 كان جوهر البرنامج إزاحة الدولة عن الاقتصاد لإعطاء القطاع الخاص فرصة للنموّ، وإنهاء السياسات المساهمة في تشوّه الأسعار مثل التحكّم في أسعار الفوائد وصرف العملات والسلع الأساسية، ثمّ الانفتاح بشكل أكبر على التمويل الخارجي بدلا من الاقتراض من البنك المركزي (طباعة النقود).

وكان تعديل تعريفة الكهرباء ضمن التصورات المطروحة في البرنامج الاقتصادي للتسعينيّات، بحيث تبلُغ سعر التكلفة الحقيقي بحلول عام 1995، لكنْ عمليا، لم يتم ذلك9.

هذا النكوص عن تحرير الكهرباء كان واحدة من حالات عديدة تراجعت فيها الدولة خلال التسعينيّات عن الالتزام بإجراءات صندوق النقد خوفا من السخط الشعبي. فقد ساهمت عقودٌ من سياسات «الاشتراكية العربية» في تسييس الحياة الاقتصادية، وكان التخلّي عن هذه المسؤولية السياسية يتطلب قدرا من التدرج.

وفي مقابل مساعٍ جادة من الدولة للتخلي عن دورها الاجتماعي في ذلك الوقت - تجسّدت بوضوح في برنامج الخصخصة المتسارع للقطاع الصناعي العام خلال التسعينيّات - كان هناك قدرٌ كبير من المراوغة في تحرير أسعار المحروقات والطاقة.

نستطيع أن نفهم على أساس هذه الخلفية لماذا كانت هناك العديد من التعديلات التشريعية الهادفة لتحرير قطاع الكهرباء خلال الفترة بين التسعينيّات والعقد الأول من الألفية. لكنّ القطاع ظلّ إلى حد كبير يسير بنفس الطريقة المعتادة خلال العقود السابقة. ولذا يصف البنك العالمي في أحد أوراقه10 كلّ محاولات التحرير خلال تلك الفترة بأنها أقرب لأن تكون تعديلا في المظهر وليس الجوهر.

واحد من الأمثلة على مظاهر التحرير كان نقل الهيئة المسؤولة عن توزيع الكهرباء خلال عام 1993 من تبعية وزارة الكهرباء إلى وزارة قطاع الأعمال. وتعتبر هذه الأخيرة وزارة مستحدثة، كان الهدف من إنشائها هو إدارة جزء رئيسي من القطاع الصناعي والخدمي العام، مع مرونة كبيرة في التصرّف في أصوله. لذا تم النظر إلى خطوة نقل هيئة التوزيع لوزارة قطاع الأعمال على أنها تمهيد لخصخصة الشركات الواقعة تحت إدارة هذه الهيئة، لكن ذلك لم يحدث.

وفي عام 2000، وقع دمج شركات التوزيع وإنتاج الكهرباء وشركة نقل الكهرباء تحت شركة قابضة. وبمقتضى هذا الشكل الجديد، يكون من حق هذه الشركات طرح نسبة من أسهمها للاكتتاب العام، لكن ذلك لم يحدث أيضا.

وعودة إلى عام 1996، فقد صدر في هذا العام تعديل تشريعي هام على القانون المنظم لهيئة كهرباء مصر، والذي سمح بصبغة عصرية للاستغلال بنظام البناء-الاستغلال ثم الإعادة للحكومة بعد انتهاء فترة الانتفاع Build- Operate- Transfer B.O.T.

ربما تكون المحاولة الأخيرة خلال تلك الفترة هي الأكثر جدية في تحرير القطاع، وتتّسق إلى حد كبير مع أهداف السياسات المالية خلال الفترة التالية للتسعينيّات، والتي كانت تركز على الحدّ من العجز المالي للموازنة.

لكن، لأنّ التحرير كان جزئيا، لم تكن الظروف مهيّئة لاستمراره. اذ سمح تعديل عام 1996 المشار إليه للقطاع الخاص بأن يدخل كمنتِجٍ للطاقة، ولكن ظلّت وزارة الكهرباء هي المحتكر الأساسي لشراء الطاقة من الشركات. ونظرا لالتزام الوزارة بدعم التعريفة للمستهلك النهائي، تكون هناك مخاطر كبيرة من الاستثمار مع الدولة، بسبب إمكانيّة أن تطرأ أزمات تساهم في اتّساع الفجوة بين السعر الذي يبيع به القطاع الخاص الكهرباء للدولة، والسعر الذي تبيع به الدولة الطاقة للمستهلك النهائي. وفي هذه الحالة قد تتخلّف الدولة عن سداد التزاماتها للقطاع الخاص.

وقد بدت هذه المخاطرة أقرب للتحقّق مع اضطرار البلاد لإجراء تخفيض قوي على قيمة العملة المحلية في عام 2003 بسبب أزمتين رئيسيتين: الأزمة المالية في جنوب شرق آسيا وتضرّر السياحة من الأعمال الإرهابية12. ولأنّ تعاقدات الدولة مع المنتجين المستقلين من القطاع الخاص للكهرباء كانت تفرض عليها تعديل السعر بما يتماشى مع تغيّر سعر الصرف، رأت الدولة أن قيمة التزاماتها في هذه التعاقدات ستصبح باهظة، لذا تراجعت عن مخططات التوسّع في منح حق الاستغلال للمنتجين المستقلّين13. وهكذا استقر الحال على وجود ثلاثة منتجين مستقلين فقط يمثلون حوالي 10 بالمئة من قيمة الطاقة الكهربائية المنتَجة14.

واستمرّت الدّولة في الاعتماد على جهودها الذاتية في التوسّع في أعمال البُنية الأساسية للكهرباء مع الاعتماد على تمويلات من البنوك المملوكة للدولة والدول الشريكة في التنمية، مع تطبيق زيادات محدودة في تعريفة المستهلك النهائي، والتي يرى البنك العالمي أنّها لم تكن كافية لحماية القيمة الحقيقية لسعر الكهرباء من التضخّم15.

وبنهايات العقد الأول من الألفية الجديدة، كانت التناقضات الكامنة في نموذج دعم الكهرباء تتصاعد وتصل به إلى لحظة فاصلة يصعب التراجع عنها. من ناحية، لم تكن الخزانة العامة قادرة على تمويل أعمال التوسع والصيانة الكافية لشبكة إنتاج وتوزيع الكهرباء، وذلك لسببين رئيسيّين: الأوّل هو النمو المتسارع في الطلب، والذي عزّزه تنفيذ مخططات تغطية كافة الجمهورية تقريبا بالخدمة، وجذب استثمارات كثيفة الاستهلاك للطاقة على أساس سعر الطاقة الرخيص؛ وثانيًا، كان الإنفاق العام مُقَيّدًا بسياسة الحدّ من العجز المالي وكانت السياسات الضريبية تسير في مسار الحدّ من تصاعدية الضريبة بهدف جذب الاستثمار، ما حَدَّ من فرص جمع الإيرادات العامة16.

واتّسمت معدلات خسائر مصر في تحويل الكهرباء بارتفاعها نسبيًا وصلت إلى 15 بالمئة من نشاط نقل وتوزيع الكهرباء وفق تقديرات وزارة الكهرباء. كذلك، تنخفض كفاءة وإتاحة محطات الكهرباء بما يتراوح بين 5-8 بالمئة عن المتوسطات المقبولة17.

graph 1

كما أنّ محطّات الكهرباء كانت تعمل وفق نظام «الدورة العادية». ويعاب على هذه النُظُم أنّها تستهلك نسبة كبيرة من الوقود بسبب انتاجها كهرباء من 40 بالمئة فقط من الوقود المستخدَم فيما تهدر الكمية الباقية18.وفي ظلّ الاعتماد رئيسيًا على الوقود التقليدي - فإنّ أيّ نقص في إتاحة المواد البترولية أو ارتفاع أسعارها يتسبّب في أزمة في إنتاج الكهرباء.

graph 3

وقد تفاقمت الأزمة خلال الألفية الجديدة بالفعل بسبب المواد البترولية التي أصبحت أقلّ إتاحة في تلك الفترة لعدّة أسباب: أوّلا، تحوّل مصر خلال العقد الثاني من الألفية من مُصدّرٍ صافي للمواد البترولية إلى مستوردٍ صافي. لذا أصبح قطاع الكهرباء تحت ضغوط بشأن توفير الطاقة التقليدية للمحطات في الأوقات التي تواجه فيها البلاد مصاعب بشأن استيراد المواد البترولية، خاصة مع نقص الموارد الدولارية.19

Egypt graph 4

كذلك تسبب نقص الموارد الدولارية في تقويض قدرة الدولة على شراء حصة شركاء استخراج الموارد البترولية من الحقول المصرية20 (والتي عادة ما تكون شركات أجنبية)21 وهو ما أدّى إلى عجز متراكم للدولة عن سداد مستحقات شركات الاستخراج22، ما قاد الأخيرة بالتبعية للحد من استثماراتها في مصر.23

 

كما شهد هذا العقد أحداث ثورة يناير 2011، وفي ظلّ عدم استقرار السلطة لعدة سنوات من بعدها، تراجعت وزارة البترول عن اتفاقيات استكشاف جديدة، ناهيك عن حالة الغضب المكتوم بين شركات الغاز بسبب تثبيت سعر شراء حصة الشريك الأجنبي لمدة عشرين عاما24.

تسبّب إذن ضعف الاستثمار في قطاع الطاقة مع تراجع الموارد البترولية في الاعتماد بشكل أكبر على استيراد هذه الموارد، وهو ما زاد من تكلفة المدخلات البترولية لإنتاج الكهرباء ووضع دعم المستهلك النهائي في موقف حرج. وفي ظلّ تدهور احتياطات النقد الأجنبي خلال السنوات التي تلت ثورة يناير وفي سياق عدم الاستقرار السياسي، اتّجهت الحكومة للتمادي في سياسات قطع التيار حتى تَحُدَّ من هذه التكلفة. وكان لهذه الانقطاعات ثمنٌ باهظ، ليس فقط على مستوى إثارة السخط العام من الأُسر التي تمثّل المستهلك الأكبر للكهرباء، ولكن أيضا لجهة الخسائر الاقتصادية التي تنعكس على أعمال القطاعيْن الإنتاجي والخدمي25.

مهّدت كل هذه الأحداث لعملية التحرير المتسارع لقطاع الكهرباء، وإدماج القطاع الخاص في منظومة إنتاج الطاقة بشكل أكبر، سواء كمُمَوِّلٍ لأعمال الحكومة أو كمنتِج مستقل.

طرحت مؤسسات التمويل الدولية تفكيك منظومة كهرباء الستينيّات كحلٍ وحيد لمواجهة مشكلات القطاع المتفاقمة. فمن خلال تحرير أسعار الوقود والكهرباء، تقول هذه المؤسسات أننا نستطيع أن نَحُدَّ من الطلب غير الضروري على الطاقة، مثل توسّع الأسر الميسورة في الاعتماد على المكيّفات عالية الاستهلاك للطاقة، ومن ثمّ نحُدّ من نفقات الدعم التي تضخّمت بشكل كبير وأصبحت عامل ضغط أساسي على عجز الموازنة.

Graph 5

كذلك سيُساهم هذا التحرير، حسب رؤية المؤسسات المالية الدولية، في تحويل القابضة للكهرباء من الخسائر الصافية إلى الأرباح. وبالتي تصبح أكثر ملاءمة ماليًا في نظر الأطراف التي تتعاقد معها، على الأخصّ الممولين الدوليين، وسيساعد ذلك على تطوير سريع للبنية الأساسية مع رفع كفاءة هذه البنية وتقليل الهدر في الطاقة.

وأخيرا، فإنّ تحرير تعريفة الكهرباء المنتَجَة من الغاز الطبيعي سيساهم في زيادة تنافسية الطاقة المنتَجة من الموارد المتجدّدة. وهو ما سيجذب القطاع الخاص للمجال الأخير، ما سيقود للاستثمار في محطات الكهرباء المنتَجة من الشمس والرياح، وبالتالي تنويع مصادر الطاقة الكهربائية وتقليل احتمالات الوقوع في أزمات نتيجة نقص الوقود التقليدي.

سنسعى في الفقرة التالية لشرح كيف تم القضاء على مشكلة تفاقم انقطاعات التيار بالاعتماد على المال الدولي، وما تم في هذا السياق من عملية تحرير متسارعة لقطاع الكهرباء من سيطرة الدولة.

كيف تمت عملية التحرير/اللبْرَلة ؟

شهد صيف 2014 ذروة انقطاعات التيار منذ بداية الأزمة، حيث بلغ معدّل الأحمال المفصولة 6050 ميجاوات، وهو تقريبا ضعف معدل الانقطاعات في عام 2008. كذلك لم تُتح الموارد لوزارة الكهرباء في هذا العام لتنفيذ ما يقرب من ثلث خطة صيانة محطات توليد الكهرباء، وهو ما زاد من العجز عن خلق الطاقة الكافية أمام الطلب الذي يرتفع في أوقات ارتفاع درجة حرارة المناخ.

وأمام تدهور الوضع، أطلقت الدولة خطة عاجلة لتعزيز قدراتها على إنتاج الكهرباء عام 2015، من خلال استكمال الأعمال المتأخرة. كما تمت إضافة طاقات جديدة بقدرة 3636 ميجاوات، وتم تدبير التمويل لهذه الطاقات الجديدة من خلال عقود الهندسة والمشتريات والبناء والتمويل Engineering, Procurement, Construction and Financing 27EPC+finance والذي يقوم خلاله المقاول منفذ المشروع بالبحث عن مصادر لتمويله.

وجاءت المخطّطات متوسطة الأجل بطموحات أكبر للتوسع. فقد استهدفت الدولة أن تُنهيَ خلال أقلّ من ثلاث سنوات ثلاث محطات عملاقة تعمل بنظام الدورة المُركَّبَة (الأكثر توفيرا للوقود). ومثّلت المحطات الثلاث طفرة غير معتادة في مستوى الطاقات الكهربائية، فقد بلغت طاقاتها مجتمعة أكثر من 14 ألف ميجاوات، وكانت تكلفتها بالغة الضخامة بطبيعة الحال: 6 مليارات يورو.

تم تدبير هذه التمويلات وفق نفس الفلسفة، حيث يقوم المقاول منفذ المشروع بترتيب القروض لحساب الدولة. وفي هذا السياق، تمّ التعاقد مع مجموعة من البنوك لتوفير التمويل مع الاعتماد على دعم أوروبي في ضمان هذه القروض، من خلال وكالة تأمين الصادرات الألمانية إيلور هيرميس ووكالة تأمين الصادرات الإيطالية ساسي the German export credit agency 28Euler Hermes and Italian export credit agency SACE.

تمّ جمع هذه التمويلات لحساب الشركة القابضة للكهرباء (العامة). وبطبيعة الحال، فإنّ ضمان قدرة الشركة على السداد يرتبط بالأساس بتكلفة الخدمة ومدى الجدوى الاقتصادية من النشاط، وهو ما مهّد بقوّة لتحرير أسعار التعريفة.

شهدت هذه الفترة زيادة واضحة في تعاقدات تمويل البنية الأساسية بنظام EPC+Finance، ورأى العاملون في قطاع الإنشاءات أنّه يمثل فرصة ذهبية للحكومة للتوسّع في توفير التمويل بدون مفاقمة الديْن الخارجي السيادي. يقول أسامة بشاي، رئيس أوراسكوم كونستراكشن، أبرز أسماء المقاولين المنفّذين لمحطات الكهرباء الجديدة، في حوار صحفي عن هذا النمط من التمويلات »  لماذا تتحمل (الحكومة ) عبء الدين وخدمته بينما يمكن أن يتحمّلها شخص آخر عنك؟ 29«.

ولكن إضفاء طابع الشركات على هذه الكيانات (corporatization)، يعني أن المستهلك متلقي الخدمة هو من سيُسَدِّد الديْن بدلا من أن تتحمله الدولة، وهو ما حدث بالفعل من خلال عملية التوسع السريعة في تحرير تعريفة الكهرباء.

وإلى جانب الانفتاح على التمويل الخارجي، قدّمت الدولة عددا من التشريعات الجديدة لتحفيز القطاع الخاص على المشاركة في نشاط إنتاج الكهرباء وبيعها للشبكة القومية، وهي الخطوة التي أصبحت أقرب للتحقّق مع تحرير التعريفة. اذ لم يعد متوقعا الآن أنْ تَنشَأ فجوة كبيرة بين سعر شراء الشركة القابضة للكهرباء من المنتج المستقّل وسعر بيعها للجمهور يمكن أن يَنتُج عنها تعثر القابضة في سداد مستحقّات القطاع الخاص.

وفي هذا السياق، صدر قانون30 عام 2014 ينظّم نشاط إنتاج القطاع الخاص للكهرباء من المصادر المتجددة وبيعها للدولة، والذي تم من خلاله طرح ما يُعرف بتعريفة التغذية. وهي التعريفة التي تقرّها الدولة كسعر لشراء الكهرباء من الشركات الخاصة بناءً على معايير التكلفة الحقيقية للطاقة المنتجَة.

وفي عام 2015 صدر قانونٌ جديد لتنظيم قطاع الكهرباء. وهو ما اعتبره المراقبون بمثابة تحوّل كبير في مسار تحرير القطاع، حيث انطوى على نصوص صريحة لكسر احتكار الدولة لإنتاج الكهرباء، وأمهل القابضة للكهرباء ثمان سنوات حتى تعيد هيكلة الشركات التابعة لها بما يؤهلّها للعمل في سوق تنافسي31.

وضع القانون على رأس قطاع الكهرباء «جهاز تنظيم مرفق الكهرباء وحماية المستهلك»، والواقع أن هذا الجهاز موجود بحكم القانون منذ عام 2000 32، لكنّ دوره كان هامشيا. إلّا أنّه أصبحت لهذا الجهاز صلاحيات قويّة في القانون الجديد، من أبرزها إقرار تعريفة الكهرباء «وفقا للقواعد والأسُس الاقتصادية»، ما يمثل انتزاعا لهذه السلطة التي تم ترسيخها في يد مجلس الوزراء منذ الستينيّات. وبذلك ستنتقل إلى جهاز مستقلّ عن الحكومة يضمّ في مجلس إدارته تمثيلا قويا للقطاع الخاص، حيث يشتمل على رئيسيْ اتحاد الصناعات واتحاد الغرف التجارية33.

وإن كان القانون الجديد أعطى للحكومة فرصة للاستمرار في الدعم، فقد تمّ التعامل مع ذلك   كاستثناء وليس قاعدة منتظمة مثلما كان الحال في التشريعات السابقة. اذ سمح القانون لمجلس الوزراء في حالة ما إذا كان يرغب في تقديم الخدمة بتعريفة أقلّ من التي حدّدها الجهاز أن يتحمّل فارق الدعم، والهدف من هذه المادة على الأرجح ضمان الاستقرار الاجتماعي في حالات شَطَط الأسعار34.

الجدير بالذكر أنّ القانون بكلّ تحولاته الراديكالية عن الوضع المستقر منذ الستينيّات لم يكن وليدا لحقبة 2015. فوفقا لدراسة البنك العالمي، بدأت التصورات الأولى لهذا القانون داخل أروقة الدولة منذ عام 2005 في إطار استشارات دولية قُدِّمَت للحكومة المصرية بهذا الصدد، ومن قبلها دراسة مكتب ميريل لينش المُقدَّمة للحكومة المصرية عام 1996 والتي أتت بتوصيات شديدة التَنَاصّ مع نصوص قانون 2015 35.

نتائج سياسات الانفتاح على التمويل الخارجي

عموما، أسهمت سياسة الانفتاح على التمويل الخارجي للبُنية الأساسية والتعديلات التشريعية المشار إليها في رفع الطاقات الإنتاجية لتوليد الكهرباء، وزادت من التنوع في مصادر الطاقة.

graph 6

ويعكس الرسم البياني السابق التحوّل القويّ في مستويات الإنتاج مقابل الطلب الاستهلاكي، بعد أن كان هناك تقارب قوي بين القدرة الأسمية لتوليد الكهرباء (المعبّر عن القدرة على إنتاج الطاقة) والحمل الأقصى (المعبّر عن الطلب). ازدادت القدرة الإسمية بوتيرة أكثر تسارعا من الطلب على الطاقة، لدرجة أن بعض المراقبين رأوا أنّ التوسعات الأخيرة كان مبالغا فيها وأنّه ليس مفهوما ما هو العائد من هذه الطاقات الضخمة، والتي أطلق عليها الباحث المتخصص في مجال الطاقة محمد يونس «عبء فائض الكهرباء»36.

وتعكس القائمات المالية للقابضة للكهرباء كيف كان عنصرَا زيادة الرسوم والانفتاح على الاقتراض مصدريْن أساسيّيْن لتعزيز استثمارات البنية الأساسية، حيث زادت الإيرادات وارتفع رصيد القروض بشكل متسارع خلال السنوات التالية لـعام 2014.

Graph 7

أمّا على صعيد تنويع مصادر الطاقة، فقد نمت قدرة محطات الطاقة الشمسية والرياح على توليد الكهرباء بما يقرب من 100 بالمئة خلال عام واحد (بين 2018/2017 و2019/2018)37.

وجاءت هذه القفزة مُعَزَّزَةً باستثمارات القطاع الخاص، الذي استطاع الدخول لهذا القطاع بفضل خيارات عدّة طرحتها عليه الدولة في إطار التشريعات الجديدة المنظمة لقطاع الطاقة. المسار الأول هو المسار التقليدي الذي كان مُتَّبَعًا من قبل في مجال الطاقة التقليدية، وهو التعاقد مع المستثمرين على إقامة محطات كهربائية لصالح الدولة، ولكن الفرق هو أن الدولة أصبحت أكثر اهتمامًا بمشروعات الطاقة المُوَلَّدَة من الشمس والرياح.

والمسار الثاني يرتبط بالدولة أيضًا، وهو ما يُعرف باستثمارات تعريفة التغذية، مثل منصة «بنبان» التي تسمح فيها الدولة للمشروعات الخاصة بإقامة محطات شمسية، وتتعهد لها بشراء الطاقة منها لفترة طويلة (25 عاما) بمقابل مربح للشركات بلغ 8.4 سنت دولارا في المرحلة الثانية من تطبيق هذا النظام لكل كيلووات.

والمسار الأخير تدور فيه العلاقة بشكل رئيسي بين الشركات في القطاع الخاص، حيث تستطيع شركات الطاقة المتجددة إقامة محطات لتوليد الطاقة بشكل مباشر للمستهلكين من خلال ما يعرف بنظام «المنتجين المستقلين».

وهناك أيضا ما يعرف بآلية صافي القياس. وهي آلية تسمح لقطاعات الاستهلاك المختلفة، - المرتبطة بشبكة الكهرباء - بإنشاء محطاتها الخاصة لإنتاج الطاقة المتجددة وإجراء مقاصة بين ما تستهلكه من الشبكة وما تنتجه. مما يمكنها في النهاية من أن تُخفض من قيمة فاتورة الكهرباء39.

باختصار، نجح التمويل الدولي في إخراج مصر من أزمة إنتاج الطاقة الكهربائية، بل ودفعها للمبالغة في مشروعات الكهرباء. إلّا أنّ هذه التمويلات جاءت مصحوبة بشروط لتفكيك سيطرة الدولة على القطاع وهيمنة طابع الشركات الخاصة على هذه الخدمة العامة. فهذه الشروط هي الضمانة الوحيدة لاستدامة قدرة الدولة على سداد مستحقات الشركات وتحجيم دورها كمنافس يقدّم الخدمة بغير السعر الاقتصادي. ومثلُ هذه الضغوطِ مع تفاقمِ الأزمة هو ما مهّد الطريق أمام السلطة لتمرير تعديلات تشريعية كانت متردّدة بشأنها منذ التسعينيّات.

إلّا أنّ مؤسسات التمويل الدولية - خاصة البنك الدولي - لا تقدم لنا هذه القراءة. فهي تصف عملية تسليع الخدمة العامة وكأنها إصلاح اجتماعي يساهم في إعادة توجيه الدعم لمستحقيه، وهي الفرضية التي سنحاول اختبارها في إطار رصدنا للأثر الاجتماعي لتحولات قطاع الكهرباء في الفقرة التالية.

الأثر الاجتماعي لتحرير الكهرباء

«أنا ضدّ إهدار الدعم» كان شعارا لحملة دعائية حكومية خلال فترة تحرير أسعار الكهرباء، احتفى بها البنك العالمي باعتبارها ترجمة لسياسات إصلاح الطاقة التي ينصح بها بلدان عدة ضمن برنامج للدعم الفني The Energy Sector Management Assistance Program يطلق عليه اختصارا، ESMAP.

Figure VIII: Egyptian Government campaign (‘In the year 2015–2016, spending on education increased by 15 per cent in comparison to 2013–2014. I am against wasting subsidies; I stand with development.’)

 

لم يقتصر تأثير التمويل الدولي على سياسات الكهرباء في مصر على التمويل التجاري الذي كان يدفع مؤسسات القطاع صوب الطابع الشركاتي الـ corporatization، ولكن أيضا التمويل الآتي من منظمات ذات طابع تنموي، والتي تبنت الرؤية القائلة أنّ التعريفة المُدَعَّمة يستفيد منها الأغنياء، وبالتالي وقف هذا الدعم يمنع المزيد من هدر الموارد على غير المستحقين.

وقد ساهم البنك العالمي مع بنك التنمية الإفريقي والوكالة الفرنسية للتنمية في تمويل قرض لمصر بقيمة 3.1 مليار دولار استهدف دعمها في عملية تحرير أسعار الكهرباء. كما كان التخلي عن دعم الكهرباء جزءا من برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي موله صندوق النقد الدولي عام 2016 بقرض قيمته 12 مليار دولار40.

ويركز نقد البنك العالمي لمنظومة دعم الكهرباء القديمة على أن الأعلى دخلا هم بطبيعة الحال الأكثر استعدادا لاستهلاك الكهرباء، فهم على سبيل المثال يستخدمون أعدادا كبيرة من المكيفات والأجهزة الكهربائية في المنزل الواحد، وبالتالي فالنسبة الأكبر من دعم الكهرباء تذهب إليهم.

تبدو تصورات البنك العالمي منطقية للوهلة الأولى، وتساهم في تغيير الرؤية بشأن ما جرى. فهي ليست عملية خصخصة للقطاع بل إعادة نظر في هدرٍ للموارد المالية يساهم في مفاقمة العجز المالي للدولة ويعطل عملية تمويل البنية الأساسية للكهرباء.

ولكن بالنظر إلى ما جرى على أرض الواقع فإن الصورة تختلف. ونوجز نقدنا لرؤية البنك العالمي في النقاط التالية:

أ- يتميز قطاع الكهرباء عن العديد من أشكال الدعم المُعَمَّم الأخرى بأنه يمكن تمييز مستوى دخل المتلقي لهذا الدعم، فالفئات عالية الاستهلاك للكهرباء عادة ما تكون من مستويات الدخل المرتفعة والعكس في حالة الاستهلاك المنخفض.

وفي هذا الإطار، كان من الممكن إعفاء الأقلّ استهلاكا من الزيادات المتسارعة في فاتورة الكهرباء، باعتباره واحدا من المنافذ التي نستطيع أن نتيقن عبرها من أنّ الدعم يذهب لمستحقيه، لكن ذلك لم يحدث.

ويجادل البنك العالمي في أن الأقل استهلاكا ظلّوا يدفعون فاتورة أقل من التكلفة الحقيقية، وهو ما يعني استمرار دعمهم بشكل جزئي. ولكن، لماذا لم يتم إعفاءهم تماما من الزيادة في التعريفة، أي الحفاظ على الدعم بشكل كلّي؟

Figure IX: Share of benefits and payments in Egypt 2015, by fiscal policy and market income quintile (World Bank)
Figure IX: Share of benefits and payments in Egypt 2015, by fiscal policy and market income quintile (World Bank)
Graph 8
Source: Annual report of the EEHC

بل إنه خلال فترة «الإصلاح»، تم ابتداع رسوم جديدة تحت مسمى «خدمة العملاء»، وكانت تزيد كل عام بوتيرة متسارعة، وتم فرضها على مختلف شرائح الاستهلاك دون إعفاء الأدنى استهلاكا منها.

ب- لم تتم مراعاة تزامن عملية تحرير أسعار الكهرباء مع حزمة من الإجراءات التي ساهمت في زيادة أعباء المعيشة (والتي جاءت ضمن برنامج إصلاحي ساندته مؤسسات التمويل الدولية منذ عام 2015) مثل زيادة ضريبة القيمة المضافة وتحرير أسعار الوقود. وقد ساهمت هذه «الإصلاحات» في ارتفاع معدلات التضخم بقوة، خاصة وأن البنك المركزي اضطرّ لترك العملة المحلية للعرض والطلب في نوفمبر 2016، وهو ما أدّى لفقدانها أكثر من نصف قيمتها أمام الدولار الأمريكي وأعطى دفعة قوية لانفلات التضخم خلال عام 2017.

ت- أمام الإجراءات التضخمية، لم تكن هناك إجراءات تعويضية كافية للفئات الهشّة. وأبرز دليل على ذلك، ارتفاع معدلات الفقر عام 2018 . وبالرغم من تراجعها الطفيف عام 2020، فإنّها لم تعد إلى مستويات ما قبل «الإصلاح».

ث- هناك انتقادات عدّة لسياسة الدعم الموجه على أساس الدخل (means-tested assistance) التي تطرحها مؤسسات التمويل كبديل عن أشكال الدعم المُعَمَّم مثل دعم الكهرباء (وفي الحالة المصرية كان المطروح في هذا الصدد برنامج المعاشات النقدية «تكافل وكرامة») نظرا إلى عدم توافر البنية المعلوماتية الكافية لدى الدولة لاختبار دخول الأفراد. وبالتالي، كان من الأفضل التدرج في الخروج من الدعم المعمَّم بدلا من الانتقال السريع للاعتماد على الدعم النقدي الموجّه، كما أنّ الدعم النقدي في مصر لم يشتمل على أيّة شروط واضحة لربط قيمة المعاش بالتضخم، وقد تآكلت قيمته بقوة خلال فترة الموجة التضخمية التي واكبت عملية «الإصلاح»42.

ج- يركّز خطاب البنك العالمي على الفارق بين استفادة الأكثر فقرا والأكثر ثراءً من دعم الكهرباء، ولا يقدم لنا رؤية تفصيلية حول الطبقة الوسطى بينهما. اذ هناك قطاعات من الطبقة الوسطى معرضة للسقوط في الفقر بسبب تزايد ضغوط معيشية مثل زيادة أسعار الطاقة. كما أنه إذا افترضنا أنّ خفض دعم الكهرباء واستهداف الأفقر بالدعم النقدي الموَجَّه سيساهم في خفض الفقر على المدى الطويل، فذلك لا ينفي أنّ هذا النمط من السياسات سيؤدي لتدهور مستوى معيشة الطبقات الوسطى وميلها لتخفيض الإنفاق على أمور مثل التعليم والصحة من أجل توفير الأموال لنفقات أخرى أساسية مثل الطاقة المنزلية.

د- أخيرا، لم تكن هناك تطورات كافية في مجال الإنفاق على أشكال الدعم التي يرى البنك العالمي أنّه أكثر تأثيرا على الأقل دخلا. فالعديد من المنظمات الحقوقية كانت تنتقد عدم التزام الحكومة بالحد الأدنى للإنفاق على التعليم والصحة الذي اشترطه دستور 2014 (43).

خاتمة

لعقود طويلة، كانت الدولة تحتكر إنتاج وتسعير الكهرباء، وهو ما ساهم في الحفاظ على قدر من الدعم للطاقة الموجَّهَة للأُسر، لكن النموذج التمويلي لم يكن قابلا للاستدامة، في ظل اتساع الفارق بين أسعار المواد البترولية المستوردة والسعر النهائي للطاقة الموجهة للأسر. كذلك في ظلّ التزام الدولة بالحفاظ على معدلات منخفضة من عجز الموازنة، ما أثّر على قدرتها على التوسع في الاستثمار بالبنية الأساسية.

ومع تصاعد أزمة انقطاعات التيار الكهربائي الناتجة عن محدودية الموارد البترولية وعدم كفاءة البنية الأساسية بالشكل الكافي، اتجهت الدولة لتنفيذ تصورات تردّدت بشأنها طيلة عقود وتتعلّق بالانفتاح على القطاع الخاص لدخول مجال إنتاج الكهرباء كمنتج ومموّل لبنية الكهرباء. وتطلّب دخول القطاع الخاص مع عبء تكاليف المواد البترولية الاتجاه بقوة لتحرير أسعار الكهرباء.

وتستعدّ مصر خلال سنوات لتُحوّل قطاع إنتاج الكهرباء إلى قطاع متحرر من سيطرة الدولة، وإن كانت الدولة ستظل منتجا رئيسيا للطاقة. إلّا أنّ دخول التمويلات الخاصة بقوة في القطاع ستجعله دوما بعيدا عن سياسات الدعم التي عهدها المصريون لعقود طويلة.

تمثّل إجراءات تحرير/ لبرلة قطاع الكهرباء أحد الملامح الرئيسية لعملية التحول الطاقي في مصر، والتي تساهم في جعل موارده المالية أكثر استدامة، بمعنى حمايته من الوقوع في أزمات لتمويل البنية الأساسية، وتساهم أيضا في تقليل الاعتماد على الوقود التقليدي والاتجاه للطاقة المتجددة. لكن هل كان التحول الطاقي في مصر عادلًا؟

نشأ مفهوم التحوّل العادل Just transition في الولايات المتحدة خلال السبعينيّات واكتسب زخما خلال العقود التالية مع المطالبة بتطبيق سياسات عادلة بشأن عملية تحول قطاع الطاقة إلى مصادر أقل تلوثا. بحيث تتم عملية التحوّل على نحو أكثر استدامة من الناحية البيئية وأكثر عدالة لجهة استفادة مختلف شرائح المجتمع من مصادر الطاقة.

وفي الحالة المصرية، كان تأثير التمويلات الدولية غالبا على رسم سياسات الطاقة مقارنة بالنظر لمسألة البعد الاجتماعي. وهو ما يتضح في عملية تحرير أسعار الكهرباء في تزامن مع إجراءات أخرى مثلت ضغوطات اجتماعية إضافية مثل تحرير أسعار الوقود وزيادة تكاليف المواصلات العامة والتوسّع في فرض ضريبة القيمة المضافة وتخفيض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار.

وبينما يجادل البنك العالمي في أنّ سياسات الدعم القديمة لتعريفة الكهرباء كانت تساهم في إهدار الموارد، بالنظر إلى أن المستهلكين الأكبر هم من الفئات العليا من الدخل، وأنّ إنهاء الدعم مع توجيه قدر من الوفورات في صورة إعانات اجتماعية للفئات الأقل دخلا هو السلوك الأكثر رشادة، فإن الفئات الأقل دخلا لم تكن بمنأى عن زيادات تعريفة الكهرباء، كما أن عملية التحرير تمت بشكل متسارع ساهمت في فرض ضغوط قوية على الطبقات الوسطى.

أيّ حديث عن انتقال طاقي عادل في مصر يجب أن يأخذ بعين الاعتبار من يتحكّم في موارد نظام الطاقة ومن يستفيد من استعمالها. وبينما تساهم التمويلات الدولية في ضمان الاستدامة المالية للبنية الأساسية، إلّا أنّها من جهة أخرى تكتسب قدرة بالغة على المساهمة في تحويل خدمة أساسية إلى سلعة، بالرغم من أنها نظريا ليست من أصحاب المصلحة الذين يُفترض أن يكون لهم الرأي الأول والأخير في صناعة السياسة الاجتماعية للبلاد.

Ideas into movement

Boost TNI's work

50 years. Hundreds of social struggles. Countless ideas turned into movement. 

Support us as we celebrate our 50th anniversary in 2024.

Make a donation