أزمة الكهرباء في السودان بين الحلول المتعجلة وفرص الانتقال الطاقي المستدام

على مدى السنوات القليلة الماضية، كان قطاع الكهرباء في السودان في حالة أزمة: إذ يعيش 60 في المائة من السكان السودانيين بدون كهرباء. ما هو الطريق إلى حل عاجل ومستدام وممكن؟

Authors

Longread by

  • Razaz H. Basheir
  • Mohamed Salah Abdelrahman
Illustration by Othman Selmi

Illustration by Othman Selmi

الأزمة:

دخل قطاع الكهرباء في السودان في حالة أزمة في السنوات القليلة الماضية. فبالإضافة إلى نسبة 60% من الشعب السوداني التي ظلّت تعيش في ظلام دامس، يعاني ملايين السودانيين اليوم من ساعات انقطاع التيار المستمر حيث لا تغطي السعة المتوفرة سوى 60% من الطلب.1 بالإضافة لزيادات التعرفة المتكررة والتي وصلت إلى 13,000% لبعض الفئات.

نتج هذا الوضع المتفاقم عن عدّة عوامل يمكن التفكير فيها من خلال صلتها بعامل الإمداد أو الاستهلاك. ويتطلّب النظر إلى هذه السياقات التعرف على التغيرات السياسية بين الحكومات المدنية والعسكرية في تاريخ السودان الحديث، بل ومراجعة سياسات الطاقة في الحقبة الاستعمارية والتعرف على التحولات اللاحقة. كما سنحاول معرفة مدى الحساسية البيئية لإنتاج واستهلاك الطاقة وارتباطها بالتحول الطاقي المستدام، ومدى قدرتها على الإجابة على الشعارات السياسية المرتبطة بثورة شعب السودان المجيدة في كانون الأول/ديسمبر 2018م وهي الحرية والسلام والعدالة.

Illustration by Othman Selmi

Illustration by Othman Selmi

الإمداد

تتوزع مصادر الطاقة في السودان بين التوليد المائي والتوليد الحراري حيث تقسم السعة الحالية التي تبلغ 3.5 قيقاواط بنسب تقارب 50% لكل منها. 2فوفقاً لتقديرات 2018 فإن 32% من الشعب السوداني فقط هم من يتمتعون بإمداد كهربائي من الشبكة القومية، يتركز معظمه في المناطق الحضرية ويستثني ولايات دارفور الخمس وجنوب كردفان بحواضرها التي يتم إمدادها بواسطة شبكات محلية تعمل بمتوسط ست ساعات في اليوم، وهي نفس مواقع اشتعال النزاعات المتأثرة بالتباين التنموي التاريخي.

Figure 1: Sudan’s electricity network, made up of medium-voltage (blue) and high-voltage (green) transmission lines, according to the current state-level of governance
شكل 1: شبكة الضغط العالي والمتوسط في السودان وفقاً لمستوى الحكم الولائي الحالي

A) الاستعمار والتباين التنموي

يعيش السودان تباينًا تنمويًا حادًا ارتبط بتنوع ثقافي كبير منذ الحقبة الاستعمارية والتي قسمت السودان الشمالي عن مناطقه الجنوبية بما في ذلك بعض المناطق في دارفور وكردفان والنيل الأزرق3 بقانون المناطق المقفولة والتي عزلت مساحات واسعة ومجموعات سكانية متنوعة عن التطور الاقتصادي والاجتماعي لبقية البلاد حتى العام 1946 بعد الحرب العالمية الثانية. سرعان ما اشتعلت الحرب بين شمال السودان وجنوبه في العام 1955 قبل إعلان الاستقلال وكانت أهم الأسباب التباين التنموي وانفراد الشماليين بالحكم.

لم تتوقف السياسات الاستعمارية بل استمرت عمليات النزاع وتطورت من حد المشاركة في الحكم وأخذت طابعاً دينياً بعد الانقلاب العسكري الأول في 1958.4 واستمرت هذه السياسة وتطورت حتى وصلت قمتها في ظل حكم الإنقاذ العسكري (1989_2019م) والذي ركز التنمية على المناطق الواقعة ضمن مثلث دنقلا، الأبيض، سنار فيما يعرف محلياً بمثلث حمدي والذي قاد إلى تركيز التنمية في منطقة محدودة داخل المثلث المذكور باعتبارها متجانسة ثقافياً ويسهل تشكيل تحالف عربي/إسلامي يكون نواة دولة متجانسة يمكنها الاستمرار كدولة فاعلة حتى لو انفصل عنها الآخرون. وهذا وفر غطاءً أيديولوجيًا معلنًا للدولة قائمًا على التهميش التنموي وتسبّب الإقصاء الثقافي والديني في تقسيم البلاد.5 وتأتي الطاقة ضمن أهم الخدمات المركزية ذات الطابع السياسي لاستمرار حكم الإنقاذ. تُعدّ هذه الصورة التاريخية المقتضبة ضرورية عند النظر لعمليات إمداد الكهرباء وهي ما نلحظه بوضوح في الخريطة في الشكل 1.

الإرث الاستعماري الآخر الذي مازال يثقل كاهل قطاع الطاقة هو مشاريع السدود المائية. عند إلقاء نظرة متعجلة إلى تاريخ التفكير في إنشاء السدود نجدها ارتبطت بحملات الاستعمار البريطاني المصري للسودان. وقد بدأت عمليات الدراسات على الشلال الثاني في العام 1897 أي قبل دخول المستعمر إلى الخرطوم مما يوضح مركزية التحكم في مياه النيل كواحدة من الدوافع الاستعمارية، وقد تم وضع استراتيجية تفصيلية في العام 1904م والتي استمرت الدراسات التحضيرية لها دون انقطاع منذ دخول المستعمر للسودان. وقد تمت الدراسات وفق أولويات الاستعمار حينها بضرورة تخزين المياه لصالح التوسع الزراعي في مصر والبحث عن فرص أخرى للتوسع الزراعي في السودان لتوفير المنتجات الزراعية للمستعمر بتكلفة منخفضة.

تم اختيار السير وليم قارستين والذي يُعَد من أبرز العلماء الذين درسوا هيدرولوجيا النيل وله تاريخ طويل في العمل في الهند ومصر وقد كُلِّف بدراسة خيارات التخزين على النيل وهو أول من وضع تصورًا لبناء سدود على بحيرة ألبرت (الواقعة في أوغندا وتمتد إلى جمهورية الكنغو الديمقراطية) وقناة جونقلي (جنوب السودان) وأشار إلى ضرورة بناء سد على بحيرة تانا (أثيوبيا) وسد على نهر عطبرة (السودان) لتنظيم تدفق المياه. كما أشار لإمكانية الاستفادة من الأراضي بين النيل الأزرق والأبيض (مشروع الجزيرة في السودان) ولتحقيق ذلك اقترح بناء خزان سنار (السودان). نشر تقرير مهم للغاية في العام 1904 يحتوي مقترحات متعددة بما فيها تنظيم مشاريع في مصر،6 لذا فقد كان أحد دوافع الاستعمار تخزين المياه لمصلحة مصر وتم إكمال الخطط الخاصة بذلك كما ذكرنا في العام 1904م.

استمر هذا النهج في ظل حقبة الاستعمار بوضع قضية التوسع الزراعي بواسطة حفظ المياه وحماية مصر من الفيضانات خصوصاً بعد فيضانات 1945-1946م،7 وظهر ذلك في تقرير صيانة النيل المستقبلية 1946م وجاء تناول تفصيلي لتخزين مياه النيل عبر الخزانات مع إشارة مقتضبة للطاقة الممكن والمتوقّع إنتاجها في التقرير الصادر بعنوان التحكم في مياه النيل 1953م و تقرير موريس مستشار حكومة السودان للري الصادر في1954.8 وهو ما أشارت إليه الوثائق الرسمية السودانية الصادرة عن وحدة تنفيذ السدود السودانية، بأن الاستعمار وضع الخطط منذ أربعينيات القرن العشرين لحفظ المياه لمصلحة مصر، وتغيّرت الخطة من إقامة سد مروي بالسودان لإقامة السد العالي لضمان وجوده داخل الاراضي المصرية.9 وقد بدأ يظهر بوضوح التحول في الغرض من إقامة السدود من تخزين المياه لمصلحة مصر فقط إلى النظر لإنتاج الطاقة بعد التقرير الصادر من البنك الدولي في العام 1983م والذي وضح تفصيلياً إمكانيات الاستفادة من السدود المقترحة لإنتاج الطاقة،10 وهو ما استندت عليه حكومة الإنقاذ11 1989-2019م في دراساتها المستقبلية وتحولت جميع المشاريع نحو التركيز فقط على إنتاج الطاقة.

لم تخرج المشاريع التي طُرحت حديثاً (في ظل الحكومات الوطنية) والخاصة بالسدود تحديداً في ظل حكم البشير (1989-2019م)  من التصور الاستعماري الذي طُرحَ في تقرير السير قارستين والذي أكمله بعد أكثر من خمس سنوات من العمل الميداني المستمر، وقد وضع التصور الكلي للاستفادة القصوى من مياه النيل وفق أولويات المستعمر حينها، والتي كان في قمة أولوياتها تخزين المياه لضمان التوسع الزراعي في مصر بعد فشل كل التدابير التي تم اتخاذها.12

إن التحول الأساسي في النصف الثاني من القرن العشرين هو تحويل الهدف الأساسي المعلن من تخزين المياه لمصلحة التوسع الزراعي (لمصلحة مصر) إلى إطلاق بالونة جديدة وهي إنشاء السدود لإنتاج الطاقة وبالتالي تحقيق التنمية. وهي إعادة تعبئة المشاريع الاستعمارية القديمة في أواني تنموية تحمل الوعود بإنتاج الطاقة، ولكنها لا تستطيع الصمود نظرياً أو أمام واقع التجربة العملية.

ارتبطت فترة حكم البشير (1989-2019م) في نصفها الأول بالعزلة والحصار الاقتصادي مما قلل إمكانيات التوسع في الخدمات، وسرعان ما اكتُشف البترول في مطلع الألفينيات ووُقّعت تسوية سياسية مع أكبر الحركات وأحزاب المعارضة، ممّا وفّر فائضاً اقتصادياً انعكس على بعض الخدمات وفي مقدمتها الطاقة. ولكن لا تخلو هذه الفترة من تحديات سياسية في إدارة المرحلة الانتقالية ما بعد التسوية، مع وضع أولوية مقدمة للحكومة حينها وهي بقاء حكم البشير (نظام الإسلام السياسي) وهو ما انعكس على طبيعة السياسات المتعلقة بالطاقة والدور السياسي لها.

هذا الانعكاس ظهر بصورة جلية في سعي حكومة البشير في بدايات القرن الواحد والعشرين إلى تحويل عمليات إنتاج وتوزيع الطاقة إلى واحدة من أكبر المشاريع السياسية لكسب تأييد مجموعات من سكان الوسط المشار إليهم سابقاً في مثلث حمدي، وذلك بالتوسع في شبكات الإمداد للقطاع السكني لكسب التأييد السياسي. وهو ما دفع الحكومة في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين إلى طرح نموذج سد مروي بصفته مخلصًا سيقود السودان من الظلام إلى النور والتنمية، وهو ما أشار إليه البشير في خطاب افتتاح السد بقوله "سد مروي مشروع القرن ومشروع بداية نهاية الفقر ومشروع بداية الانطلاقة الكبرى لدولة السودان العظمى"13.

قدمت حكومة البشير سد مروي كمشروع تنموي كبير وحاولت تسويقه في حفل الافتتاح كرد على مذكرة المحكمة الجنائية الدولية في 2009م التي طالت المشير البشير والذي ذكر في خطاب الافتتاح: "سيصدرون قرارهم غداً واليطلعو بعدو قرار ثاني وثالث ولن تصنع فينا شيئا وما دايرين الناس ينشغلوا بالقرارات ونحن حنواصل في التنمية".14 وكان شعار أنصار البشير حينها (السد الرد)،15 وسرعان ما انقشعت غيمة الخطاب التنموي أمام واقع زيادة قطع الكهرباء وارتفاع تكلفتها مع مرور الزمن.

قامت الحكومة بتركيز عمليات الإنشاء والتسويق لشركات موالية لها، ما زاد تكاليف الإنشاء بزيادة الفساد والمحسوبية وغياب الرقابة، وبعدها واجه السودان فاتورة الديون المرتفعة التي بلغت حوالي 3 مليار دولار أمريكي، والتي خصصت لبناء السد الذي تناقصت قدرته على إنتاج الطاقة الكهربائية. بعدما كان يروج عند افتتاحه بأنه سينتج 1250 ميقاواط، انخفضت قدرته لأقل من 600 ميقاواط.16 كما أن غياب الشفافية كان عاملاً مهماً في زيادة التكلفة البيئية المترتبة على بناء السد، وقد أوكلت الحكومة المهام الهندسية لشركة لاهماير الألمانية (Lahmeyer) والتي أُدينت في قضايا فساد في مشروعات مياه بمرتفعات ليسوتو في مناطق جنوب أفريقيا،17 ما قاد البنك الدولي لوقف التعامل معها لسبع سنوات. وقد وجدت مساحات بديلة للعمل مثل السودان حيث يتوفر لها التمويل من جهات أخرى نادراً ما تضع معايير الشفافية في قائمة أولوياتها. وقد استمرت لاهماير بدورها مستشارًا هندسيًا لمشاريع سدود أخرى بل توسعت في أعمالها في ظل حكم الإنقاذ18.

صاحَبَ بناء السد تجاوزات خاصة بالدراسات البيئية، حيث لم تتم إجازة الدراسات البيئية لمشروع سد مروي حتى العام 2007م. وقد أوضح تقرير الوضع البيئي للسودان الذي صدر ما بعد النزاع المسلح الطويل (الذي شهده السودان من العام 1983 حتّى 2005) أن الحكومة لم تلتزم بمعاييرها القانونية في إجازة دراسات الأثر البيئي.19 وعند عرض الدراسات على الجهات المختصة في الدولة لم تتم إجازتها كونها تفتقر لمكونات أساسية، وهو ما قاد للضغط على الجهات الممولة لإيقاف انسياب التمويل. كان رد فعل الحكومة قوياً تمثل في تغيير وزاري حينها تم على اساسه ابعاد الوزير وكل الادارات المعنية بإجازة تقارير الأثر البيئي. وقد تمت إجازة هذه التقارير بعد حوالي أسبوع من تعيين الإدارات الجديدة. هذا يوضح حجم الاهتمام ووضع قضية سد مروي في تلك الفترة ضمن قائمة الأولويات عالية الأهمية.

ويوضح ذلك أيضا عدم الاهتمام بالآثار البيئية والاجتماعية المترتبة على إقامة السدود، والتي تسببت في زيادة معدلات التبخر والتي بلغ حجمها في حالة سد مروي20 حوالي 1.5 مليار متر مكعب من المياه بالإضافة إلى زيادة البحيرات الصناعية في السودان بصفة عامة، والتي أثّرت بشكل واضح على معدلات إنتاج المحاصيل الأساسية والبساتين في المناطق شمال سد مروي وساهمت في تهجير عشرات الآلاف من المتأثرين وفقدانهم لسبل كسبهم للعيش21.

لم تمض إلا سنوات قليلة إلى أن تم الإعلان عن اكتمال تعلية خزان الرصيرص (في ولاية النيل الأزرق حوالي 550 كم جنوب شرق الخرطوم) في 2013 وبعدها اكتمال سدَّي أعالي عطبرة وستيت (في ولايتي كسلا والقضارف، حوالي 460 كم شرق العاصمة الخرطوم) في 2017 واللذان ينتجان نظريا 280 و320 ميقاواط على التوالي. وقد بُنيت المشروعات المختلفة بواسطة القروض من الصناديق الخليجية وحكومة الصين، وشكّك كثير من المختصين في جدوى التمويل الصيني والخليجي لمشاريع الطاقة المائية كون الصين تسعى لتوفير القروض مقابل قيام شركاتها الحكومية بعمليات إنشاء السدود، وتوفر بعض دول الخليج القروض مقابل حصولها على الأراضي الخصبة لمواجهة قضايا الأمن الغذائي.22

إن توفير التمويل عبر القروض هو إحدى المشكلات التي تواجه مشاريع إنتاج الطاقة وفي مقدمتها السدود. بدلاً من حشد الموارد الذاتية للدول عبر الاستفادة من إمكانية توفير التمويل عبر الضرائب التصاعدية وتكوين شركات مساهمة عامة وتوفير فرص للمتأثرين والسكان عموماً ليصبحوا مساهمين في المشاريع وفي فوائدها كحلول قادرة على ضمان المشاركة الواسعة والاستفادة من تلك المشاريع، يتم فقط ربط تلك المشاريع بالقروض التي تؤثر على السيادة الوطنية في المشاريع الاستراتيجية وتزيد من ثقل الديون المتراكمة.

مثّلت هذه المشاريع (سد مروي، تعلية خزان الروصيرص، سدي أعالي عطبرة وستيت) صورة واضحة لهذه العمليات حيث حصلت الشركات الصينية على عقود الإنشاءات، أما السعودية فقد حصلت على أكثر من مليون فدان (404.700 هكتار) لمدة 99 عامًا وهي المساحة الكلية لمشروع أعالي عطبرة الجديد الواقع في أراضٍ خصبة تفكر المملكة العربية السعودية في استغلاله ضمن مشروع توفير الأمن الغذائي.23 وقد تم تهجير السكان من أراضيهم قسراً وفرضت عليهم الحكومة تعويضات مجحفة بحيث أن من يمتلك أقل من 10 فدانات زراعية (حوالي 40.468 متر) يتم تعويضه بقطعة أرض سكنية بمساحة 300 متر مربع، ومن يمتلك أكثر من 10 فدان يتم تعويضه بقطعتين سكنيتين بمساحة 600 متر مربع24. فقد السكان أراضيهم الزراعية وفقد الرعاة مسارات الرعي الطبيعية لأكثر من 7 مليون رأس تقريباً من الماشية وتم تهجير قسري لحوالي 700 ألف مواطن من مناطقهم25.

أثبتت التكلفة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لمشروعات الطاقة المائية من خلال التجربة انخفاض العائد الطاقي منها مقابل حجم التكلفة الكبير، وهو ما يجعلها مشروعات تساهم في زيادة التباين التنموي وفقدان أعداد كبيرة من السكان لسبل كسب عيشهم التقليدية، وبالمقابل نجد أقرب المناطق لتلك السدود (مثل مناطق الخيار المحلي في محلية البحيرة، ومنطقة العزازة قرب خزان الروصيرص، وأغلب القرى على ضفاف نهر عطبرة) لا تتمتع بالكهرباء ولا المياه المنتظمة، ما يجعل مشاريع الطاقة المائية تساهم في خلق مناطق تضحية من أجل "التنمية" وتراكم رأس المال في مناطق أخرى وهو ما يساهم في إعادة إنتاج التباين التنموي، ما يعمّق الغبن التاريخي ويساهم في زيادة النزاعات بدرجاتها وأشكالها المختلفة.

B) الحلول المتعجلة

بالإضافة إلى حرمان أكثر من 60% من الشعب من الوصول إلى الشبكة القومية، تفاقمت فجوة الإمداد القومي بفعل زيادة معدلات الاستهلاك السنوية الكبيرة نسبياً، بمتوسط 10% سنوياً، ما وضع القطاع تحت الضغط المستمر لتوفير مزيد من السعة الكهربائية. تمت الاستجابة لهذه الضغوط بتشييد المزيد من المحطات الحرارية باعتمادها الكبير على الوقود المستورَد، حيث تمت إضافة أكثر من 1500 ميقاواط حرارية بين عامي 2008 و2019. وتُقدر تكلفة الوقود المستهلَك للقطاع في 2017 ب 1.3 مليار دولار، ما جعل نسبة الدعم الحكومي للقطاع 15% من منصرفات الدولة26. كما أن هذه الكميات المنتجة تتسبب في انبعاثات كبيرة، ما يعادل حوالي 6.25 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون.

غطّت السرعة والتكلفة الأولية المنخفضة نسبياً والتي يتم بها إضافة محطات حرارية جديدة للسعة القومية على التحدي التشغيلي الكبير الذي تواجهه دولة فقدت أكثر من 75% من رصيدها من النفط وأرباحه بانفصال جنوب السودان في 2011. ولكن جعلها هذا تعتمد إلى حد كبير على الوقود المستورد في ظل أسعار صرف غير مستقرة وبمعدلات تضخم متسارعة. وبالإضافة إلى تزايد الأسعار فإن التوسع في الإنتاج الحراري لا يأخذ بعين الاعتبار الأثر البيئي السالب للتوليد الحراري والذي يتسبب في زيادة كبيرة في انبعاثات الغازات المسببة للتغيير المناخي.

أما خيارات التوليد الهيدرومائي فقد ظلت في قلب الخطط المستقبلية لكن بتنفيذ أقل. وقد صرّح نظام الإنقاذ27 مراراً بعزمه على إقامة مجموعة من السدود الكبيرة على نهر النيل شمال الخرطوم في مناطق دال وكجبار والشريك (بطاقة تشغيلية كلية/مركبة تعادل 990 ميقاواط)، وتقع هذه السدود على الشلال الثاني والثالث والخامس في شمال البلاد، بالإضافة إلى بعض المشاريع المحدودة في إنتاج الطاقة الكهربائية في دقش ومقرّات وشري والسبلوقة.28 وتواجه هذه المشاريع تحديات متعلقة بالرفض الواسع للسكان المحليين بسبب عدم جدواها حسب وجهة نظرهم وكونها ستؤدي إلى إغراق أغلب المناطق السكنية والزراعية والأثرية من شمال الخرطوم وحتى حلفا القديمة، بالإضافة إلى تكلفتها المرتفعة مقارنة بالعائد المتوقع منها. وفنياً فإن محاولة تسويقها كحل يصطدم بواقع إنشاء سد النهضة الذي سيغير من طبيعة النيل ويساهم في استقرار جريان المياه على طول العام، وهو ما يجعلها مشروعات غير مجدية عملياً وتواجه تحديات تنفيذية تجعل تـنفيذها أبعد من الواقع.

كل هذا يجعل من خطة القطاع والتي تهدف إلى الوصول لإمداد كهربائي بنسبة 80% بحلول 2031 هدفاً طموحاً جداً.29 فبالإضافة إلى فجوة السعة المتوفرة فإن التكلفة المرتفعة لمد شبكات النقل والتوزيع تترك بدورها نسبة مقدّرة من الشعب في الظلام، حيث نلاحظ في الشكل 1 تركُّز خطوط الإمداد في وسط وشمال البلاد، المركز التاريخي للقوة الاقتصادية والسياسية في البلاد.

ورغم العوامل المشتركة بين السودان وبعض دول أفريقيا جنوب الصحراء من انخفاض في معدلات الكهربة والكثافة السكانية، إلا أنه لم ينجح مثل هذه الدول في خلق أسواق وصناعات مزدهرة من الخيارات البديلة، الشيء الذي يعود في جزء منه إلى العزلة الدولية التي كانت مضروبة على النظام السابق بسبب العقوبات الأمريكية. على سبيل المثال، وبالمقارنة مع تنزانيا30 التي تمتلك 109 محطة شمسية معزولة بسعة كلية تبلغ 158 ميقاواط، يمتلك السودان محطة واحدة بسعة لا تتجاوز 5 ميقاواط.

انطلقت المبادرة الأولى في هذا الاتجاه في عام 2014 حينما تم تجريب نموذج الأنظمة الشمسية المنزلية (Solar home systems). استهدف النموذج التجريبي 100 مستخدماً بسعة 100 واط لكل مستخدم. صمم البرنامج ليصل سعة كلية مقدارها 110 ميقاواط بعام 312031.  وفقاً لآخر تقرير فإن عدد المستفيدين قد بلغ 1500 منزلاً  في 2018، تم إمدادهم بالأنظمة الشمسية على أقساط بالتعاون مع بنوك محلية بالأقاليم المعنية32.

إلا أنه لم تُفتتح أول محطة شمسية إلا في 2020 حينما تم تدشين محطة بسعة 5 ميقاواط في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور وأهم مدن إقليم دارفور عموماً.33 بينما تشهد كذلك محطّتها التوأم في مدينة الضعين في دارفور بعض العقبات التي حالت دون إكمالها مثل التمويل وتأخير المواد والمعدات وحالات سرقة لبعض المعدات. تم تمويل وتطوير المحطتين بواسطة الشركة السودانية للتوليد المائي والطاقات المتجددة والتنفيذ بواسطة شركة محلية خاصة تدعى توب قير.34

بينما يجوز إرجاع الأزمة التي تضرب القطاع حالياً إلى عهد البشير وفساده إلا أن الحكومة الانتقالية لمرحلة ما بعد الثورة (2018) قد فاقمتها بصورة مباشرة وغير مباشرة. فكل إصلاحات الاقتصاد الكلي كانت أُمليَت بناءً على العقيدة النيوليبرالية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لم يحاول عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء القادم من مكاتب الأمم المتحدة بدوره مقاومتها بحجة كونها شروطاً أساسية لتخفيف الديون وللحصول على قروض ودعومات جديدة.35 حيث أدى تعويم الجنيه ورفع الدعم عن السلع الأساسية إلى وصول قيمة الجنيه مقابل الدولار الرسمي 570 جنيه اليوم مقارنة بـ 55 جنيه في يناير 2021، وإلى أن يقفز سعر الوقود من أقل من 100 جنيه/الجالون إلى 2500 جنيه/الجالون.36

أما الطرق المباشرة التي زعزعت بها الحكومة الانتقالية الإمداد الكهربائي فمصدرها نفس روشتات الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية المذكورة آنفاً لكن باستهداف مباشر لقطاع الطاقة. كان تطبيق هذه الإصلاحات التي تأتي في وقت حرج رهيناً بدرجة عالية من التنسيق والتخطيط. ليأتي فشل القطاع في هذا الأمر ويجعل من المستخدمين ضحايا لتوصيات الإصلاحات المجحفة وتنفيذها السيء في آن واحد.  كما أن الأمر قد ازداد سوءًا بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 والذي عُلقت على إثره كل المعونات الخارجية، ما زاد الضغط على خزينة الدولة وسارع بحزمة الإصلاحات المعطوبة.

Illustration by Othman Selmi

Illustration by Othman Selmi

الاستهلاك

من أهم تمظهرات سنوات النفط في السودان (1999-2011) كان التغيير في أسلوب الحياة للطبقة الوسطى الحضرية. الخرطوم الكبرى، العاصمة التي تؤوي 20% من سكان البلاد (حوالي9 مليون شخص)37 وأهم الصناعات والخدمات والمعاملات التجارية، تستهلك 60% من إمداد البلاد الكهربائي.1 يذهب 60% من هذا الاستهلاك أيضاً للقطاع السكني الذي يستوحي معماره من دبي ودول الخليج الأخرى، حيث استُبدل المعمار التقليدي القائم على مواد من التراب البارد والساحات الفسيحة وجيدة التهوية الملائمة للمناخ الصحراوي للسودان بغابات خرسانية من المباني الرأسية رديئة التهوية – ما يجعل نسبة كبيرة من مواطني المدينة تعتمد بالكامل على أجهزة التكييف عالية الاستهلاك الكهربائي، حيث تصل معدلات الطلب في الصيف ضعف ما هي في الشتاء. لكن وعلى عكس دبي، فإن القوانين الصارمة والمؤسسات المنظمة للمباني ولتصنيع واستيراد الأجهزة الكهربائية غائبة بالكامل، حيث يصل معدل استهلاك المنزل الواحد 308 كيلو واط. ساعة في الشهر، أو مايقارب ستة أضعاف المتوسط لإقليم أفريقيا جنوب الصحراء.38 لتبقي هذه كإحدى إمكانيات تحسين كفاءة الطاقة. 

تقوم معدلات الاستهلاك الحضري المرتفعة هذه بالضغط على القطاع من جانب، كما أنها تمارس ضغطاً سياسياً للحصول على إمداد أكثر استقراراً من الجانب الآخر. دفع هذا الضغط في القطاع باتجاه الحلول المتعجلة والطارئة، مثل الزيادة الكبيرة في السعة الحرارية السابق ذكرها والتي تنوي الخطة الخمسية الموضوعة في 2018 في عهد البشير تكرارها بالتخطيط لزيادة السعة المتوفرة بـ 8.7 قيقاواط إضافية، 60% منها من المحطات الحرارية. تمت مراجعة هذه الخطة بواسطة البنك الدولي في تقريره31 المنشور في منتصف 2019 والذي تم فيه عرض الوضع الحالي للقطاع وتوصيات إنعاشه. ونسبةً لأن هذا التقرير يخدم الآن كمرجع لإصلاح قطاع الكهرباء، سيتم مناقشة أهم محاوره في النقاط التالية. 

Illustration by Othman Selmi

Illustration by Othman Selmi

تقرير البنك الدولي

يمكن قراءة الإصلاحات الأساسية في التقرير من وجهة نظر ثلاثة محاور هي: رفع الدعم عن التعرفة، المزيج الطاقي للسعة المستقبلية ومشاركة القطاع الخاص. 

A) رفع الدعم عن تعرفة الكهرباء

وفقاً للتقرير فإن التعرفة في السودان تعتبر الأدنى في إفريقيا جنوب الصحراء (بغض النظر عن معدلات الدخل في الدول موضع المقارنة). ويضيف التقرير بأن التعرفة تمثل ما بين 1-3% من متوسط الدخل الشهري للأسر، ما يجعلها متوافقة مع المؤشرات الموصى بها بأن لاتتجاوز التعرفة ال 5% من متوسط الدخل الشهري للأسرة، دون التفكير في عدد الأسر التي تمتلك دخلاً شهرياً ثابتاً في بلد يعمل أكثر من 65% من سكانه بالقطاع غير المنظم39 كما أضاف التقرير كيف يُوجَّه الجزء الأكبر من الدعم للفئات الخطأ، حيث يتم استهلاك نسب أكبر من الكهرباء من طرف الفئات العليا في هرم معدلات الدخل أي أن النسب الأكبر من الدعم الحكومي تذهب للأغنياء. ويخلص التقرير إلى أن معدلات الدعم هذه "كريمة" جداً ويوصي بخفضها تدريجياً على مدى خمس سنوات لتغطية العجز المالي.

 بين كانون الثاني/يناير 2021 وكانون الثاني/يناير 2022 عُدّلَت تعرفة الكهرباء ثلاث مرات مختلفة وبمعدلات أسّية. مثلاً، وبالمقارنة مع التعرفة قبل 2021 فقد قُلِّص خط الدعم الحيوي (Lifeline Tariff) -وهي الفئة الأقل تكلفة والتي تستهدف الشرائح الاجتماعية الأضعف- من 200 كيلوواط/ساعة (ك.و.س) إلى 100 ك.و.س، وزادت تكلفة الكيلواط/ساعة منه من 0.15 جنيه إلى 5 جنيه (تتجاوز  3,000%).40 كما زادت التعرفة التجارية والزراعية بنسبة 13,000% و5,000% على التوالي في حزمة الزيادات الأخرى.41 انعكست آثار هذه الزيادات القاسية في زيادة أسعار كل المنتجات المصنعة والسلع لتزيد من معاناة المواطنين الذين امتص التضخم مواردهم.  

بينما يمكننا أن نتفق على ضرورة إصلاحات تعرفة الكهرباء في ظل الأوضاع الحالية للقطاع وللاقتصاد الكلي الذي ورثته البلاد من نظام البشير الفاسد، إلا أن تفاصيل هذه الإصلاحات تبقى موضع جدال. فمن غير العدالة افتراض تمتُّع من هم في قمة وقاع الهرم الاقتصادي بنفس المقدرة على امتصاص زيادات بهذه الأضعاف المضاعفة في تعرفة الكهرباء وأسعار السلع والخدمات التي صاحبتها. فقد كان من الممكن الوصول إلى صيغة إصلاحات أفضل من خلال الموازنة بين معدلات الزيادة للفئات المختلفة. مثل أن تتم المحافظة على التعرفة للفئات الأقل إستهلاكاً (بمتوسط 177 ك.و.س في الشهر) عند نفس التعرفة ومحاسبة الاستهلاك العالي (أعلى من 600 ك.و.س في الشهر مثلاً) بسعر التكلفة الحقيقية، لأن ذلك ليس من شأنه أن يزيد من عوائد القطاع وحسب بل سيحفز ال1% التي تستهلك أكثر من ربع إمداد القطاع السكني 42على الترشيد.

رغماً عن الزيادات الكبيرة في التعرفة إلا أن رفع الدعم مازال جزئياً، ما يعني أنه ثمة زيادات أخرى في طريقها للمواطنين للوصول إلى الرفع الكامل الموصى به، الأمر الذي قد يفاقم الغضب الشعبي الذي يتملك المواطنين بعد الإجراءات الانقلابية مؤخراً، خصوصاً في ظل الوضع الحالي الذي لا تُترجم فيه الزيادة في التعرفة إلى استقرار في الإمداد. كما وأن الموجة الأخيرة  من الزيادات (2022) قد شهدت حراكاً قوياً وسط فئة المزارعين الذين قفزت تعرفتهم بنسبة 2,000% مقارنةً بالتعرفة السابقة43


قام المزارعون في شمال السودان في مطلع 2022 وبدعم من القوى المدنية الأخرى بالاحتجاج على زيادة التعرفة الزراعية وطالبوا بتخفيضها، وعبّروا عنه بإنشاء متاريس على الطريق القومي الذي يربط شمال السودان بمصر ويسهّل عمليات التبادل لكميات مقدرة من السلع والمسافرين. تُوِّج هذا الاحتجاج بما عُرف لاحقاً بترس الشمال (متراس الشمال) بنجاح يستحق التقدير، وذلك ليس لمقدرته على حجز التعاملات التجارية المشبوهة والتي يهرّب من خلالها الذهب والمواد الخام بواسطة القوات النظامية ومعاونيها إلى مصر فحسب. إنّما لنجاح هذا الحراك في التمدد من نقطة واحدة ليشمل 14 نقطة إضافية على طول الطريق. وبالإضافة لمطلب خفض تعرفة كهرباء قد أضيفت للقائمة مجموعة من  المطالب التاريخية لسكان المنطقة التي عانت من مشاريع التوليد المائي منذ الاستقلال. استمرت متاريس الشمال لما يزيد عن الأربعة أشهر ونجحت في خفض التعرفة للمزارعين المحليين من 21 جنيه إلى 9 جنيه.44

ختاماً، فإنه وبدون السيطرة على مؤشرات الاقتصاد الكلي للبلاد فسيلتهم التضخم كل الأرباح الإضافية المحققة من رفع الدعم، ليترك قطاع الكهرباء بفاتورته المتضاعفة لوقود المحطات الحرارية، الحالية والمستقبلية. كما أنه في ظل معدلات التضخم التي بلغت أكثر من 260% في مارس 202245 ومقدرة شرائية منخفضة جداً وسط شعب يرزح أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر46 فلا يعني تحرير الأسعار في هذا الوضع شيئاً آخر سوى أن القطاع في طريقه ليحيد أكثر عن أهدافه في الكهربة بحلول 2031. فلم تأتِ تجارب الكهربة الناجحة في دول مثل غانا وكوريا الجنوبية47 سوى بالمجهودات الحكومية التي تصمم حزمًا للرسوم والتعرفة الملائمة لميزانية المواطنين ذوي الدخول المحدودة وغير المنتظمة.

B) المزيج الطاقي للسعة المستقبلية

وفي حالة من عدم التنسيق التام بين الجهات المختصة المختلفة في عهد البشير تصعب مقارنة الخطة الموضوعة في 2018 للسعة المستقبلية والمساهمات المحددة قومياً (Nationally Determined Contributions) التي تم الالتزام بها في مؤتمر الأطراف 21 في باريس (COP21) وجرى تحديثها في .2021 حيث تستهدف المساهمات القومية الجديدة إنشاء محطات بسعة 3,000 ميقاواط قبل 2031 بمزيج من طاقة الرياح والطاقة الشمسية داخل وخارج الشبكة. بينما تنص الخطة الحكومية على سعة إضافية تمثل فيها المحطات الحرارية 60%، الأمر الذي تمت مراجعته بصورة طفيفة بواسطة تقرير البنك الدولي ليتم تخفيض نسبة التوليد الحراري إلى 50% وزيادة الطاقات المتجددة (عدا التوليد المائي) إلى 800 ميقاواط لكل من طاقة الرياح والطاقة الشمسية، أي ما يعادل نسبة 10% من السعة الإضافية المستقبلية لكل من المصدرين كما هو موضح في الشكل 2. يعتمد التقرير معايير التكلفة الدنيا (Least-cost plan) للوصول إلى المزيج الطاقي للسعة المستقبلية، والذي لايستصحب سوى التكلفة المالية للمشاريع، غاضاً النظر عن التكلفة البيئية أو الاجتماعية لها.

السؤال الذي لا يمكن تجاهله هو لماذا لا تكون النسبة الغالبة في خطط السعات المستقبلية للطاقات المتجددة، مع العلم أنّ معدلات الإشعاع الشمسي اليومي مرتفعة جداً في البلاد وأنّ سرعات الرياح تتجاوز 7م/ث في عدة مواقع، ما يجعلها مثالية للتوليد من طاقة الرياح؟ ومع الإشارة إلى الانخفاض الملحوظ في أسعار الطاقات المتجددة في السنين الأخيرة، لتصل إلى مستوى التنافسية مع عدّة مصادر من الطاقة التقليدية؟ السمة الأخرى التي لا تزال تسيطر على العقلية التخطيطية هي المركزية المفرطة. تزخر تجارب الدول في الإقليم ودول جنوب العالم الأخرى بتجارب ناجحة لنماذج بديلة ولامركزية كحل ملائم لكل من مشكلة الكهربة ومحاولات الانتقال لطاقات نظيفة وعوائق التمويل الضخمة للمشاريع المركزية.

على سبيل المثال، نجحت كينيا في زيادة معدلات الكهربة بها من 32% في 2013 إلى 75% في 2018، مستعينة بخليط من الحلول التقنية والمؤسسية تشمل الربط التقليدي بالشبكة وأنظمة الطاقة الشمسية المنزلية (Solar Home Systems SHS) والشبكات الصغيرة المعزولة (Mini/micro-grids).50 فتتناقص تكلفة خيار الشبكات الصغيرة  باطراد، كما توفر إمكانيات ما يُعرف اليوم بالجيل الثالث من الشبكات الصغيرة ذات التقنيات المرنة، منها إمكانية ربط مجموعة من هذه الشبكات مع بعضها أو مع الشبكة القومية في المستقبل.51

رغم تأكيد الخطوط العامة للخطة المستقبلية على الدور المهم للشبكات الصغيرة في مشروع الكهربة الشاملة في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة في السودان، إلا أنه لا توجد أية تفاصيل عنها في الخطة قصيرة المدى. فالتقرير يحذو حذو السياسات الحكومية التي ظلت تتسم بتوجيه الموارد المالية المحدودة لتقوية الإمداد للمستهلكين داخل الشبكة كاستجابة عاجلة لأزمة الإمداد الحضري، وإعطائها أولوية تفوق مشاريع الكهربة للمتسخدمين خارج الشبكة رغم التكلفة الإجتماعية الباهظة لحرمان مايزيد عن 60% من السكان من حقهم في الوصول لخدمة أساسية كالكهرباء.

C) إشراك القطاع الخاص

 أما المكون السحري لوصفة التحرير التي وصفت مراراً وتكراراً حول العالم فهو إتاحة الفرصة للقطاع الخاص للمشاركة وذلك لجذب التمويل والخبرات. في 2010 تم تقسيم الهيئة القومية للكهرباء -المحتكرة لكل عمليات الإمداد الكهربائي- لخمس شركات وفقاً لمهامها التقنية، مثل التوليد الحراري أو المائي أو النقل أو التوزيع وإلخ. نصّت نفس هذه الإصلاحات على إمكانية دخول القطاع الخاص في مرحلة التوليد عن طريق مولّدي الطاقة المستقلين، لكن وفيما عدا المحطات المعزولة -التي خُصخص إنشاؤها وتشغيلها (لا تتجاوز 3% من السعة الكلية)- لم يدخل القطاع الخاص بأي شكل في مشاريع التوليد اللاحقة. يعزي تقرير البنك الدولي هذا الأمر لغياب الإطار الكامل الذي يفصّل عملية الشراكة وقوانينها، بالإضافة لإنخفاض تعرفة الكهرباء (المدعومة) والتي تعتبر غير جاذبة للمستثمرين.   

يدفع الإطار المقترح في تقرير البنك الدولي إصلاحات القطاع الحالية في اتجاه تهيئته ليصير جاذباً للمستثمرين بدلاً من توجيهها في سبيل رفع القدرات وإعادة هيكلة شركات القطاع العامة لتمكينها من قيادة المشاريع المستقبلية بالكفاءة المطلوبة. لا يهدّد التفكير حالياً في إصلاحات قطاع الكهرباء انطلاقاً من عقلية ربحية استدامةَ القطاع فحسب، بل بإمكانه أن يكون أمراً عسير التحقق في الأساس، ما يجعل القطاع فريسة للحلول المتعجلة والطارئة من جديد. 

إن الموجهات وأفضل الممارسات لصناعة توليد الطاقة التي يسترشد بها مستثمرو الطاقة في العالم هي على النقيض من كل ما عليه القطاع في السودان الآن. حيث نجد في القائمة محددات مثل أجواء مواتية للاستثمار، أطر سياسات واضحة ومتسقة، ممارسات مناقصات تنافسية، إمدادات وقود مستقرة وما إلى ذلك، الأمر الذي يصعب تخيله متحققاً في القريب العاجل في ظل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي يضرب بالسودان حالياً. مثلاً يعاني مولّدو الطاقة المستقلون من الشركات التركية التي تمتلك بعض المحطات المعزولة من صعوبة تأمين إمدادات الوقود وتأخير دفعات الحكومة لهم، ما يستجيبون له بقطع الإمداد عن المدن لأيام.53

ربما يكمن السيناريو الأكثر منطقاً وعدلاً (خصوصًا للطبقات الفقيرة) في  الفصل بين حل أزمة الكهرباء في البلاد عن إشراك القطاع الخاص في إنشاء السعات المستقبلية وتوجيه قروض التنمية للشركات العامة للقطاع بصورة مباشرة والابتعاد عن الشروط التي يمليها السوق الحر ومحدداته. فبالإضافة إلى ما سبق، فقد أُثبت تناقُض معظم هذه الشروط الصارخ مع مشاريع الكهربة ذات الأبعاد الاجتماعية مثل تعرفة الدعم الحيوي (Lifeline tariff)، الدعم المتبادل للفئات (Cross subsidy)54، ضرائب الاستيراد العادلة، ومتطلبات التوطين للصناعات والعمالة. وعموماً، فقد أصبح توفير التمويل الذي بُررت به عمليات إشراك القطاع الخاص مراراً وسيلةً لـ"خصخصة المعونات " التي تخدم كأداة نيوكولونيالية تُفاقَم من خلالها تبعية الدول النامية من دون أن يصاحب ذلك خطوات حقيقية في اتجاه حلول مستدامة للمشاكل المعينة، بل تتحول هذه المعونات إلى قناة يتم من خلالها صرف ميزانيات الدعم التنموي للشركات الخاصة في كل بلد. تمثّل پاور أفريكا (Power Africa) على سبيل المثال أكبر المبادرات العاملة في مشاريع الطاقة في أفريقيا جنوب الصحراء بالتزامات تمويل كلّيّة تصل إلى 54 مليار دولار حالياً، وتستخدمها الحكومة الأمريكية لزيادة أرباح القطاع الخاص في أمريكا. ففي 2016 مثلاً وجّهت ما يقارب الـ90% من التزامها ذو السبعة مليار دولار لبنوك ومؤسسات تمويل خاصة أمريكية لتنفيذ أو تمويل مشاريع طاقة في أفريقيا جنوب الصحراء.55

أما حجة أن شركات الطاقة المحلية تفتقر للكفاءة التنفيذية التي تمكّنها من قيادة مشاريع كهذه فهو أمر قابل للدحض. فخلال سنوات النفط في السودان بين الأعوام 1999 و2011، وفّر الانتعاش الاقتصادي المصاحب لها فوائض معتبرة لخزينة الدولة، و رغم الفساد والمحسوبية، لم تكن الهيئة القومية للكهرباء حينها ناقصة للخبرات الفنية والإدارية للقيام بإصلاحات ناجحة وذات نطاق واسع: مثل التحول إلى نظام الدفع المقدم56 الذي رفع معدلات التحصيل إلى 93% (ضمن الأعلى في الإقليم) 57، وأيضاً تم الصرف بكرم على تأهيل الكوادر وتدريبها داخل وخارج البلاد، ما جعلها تتمتع بوضع جيد واستحقاقات مالية عالية حافظت عليها من ظاهرةهجرة الأدمغة إلى الخارج التي تميّز معظم قطاعات البلاد. وفي السنين الأخيرة تمّت أيضاً مشاريع لتوطين صناعة عدة معدّات مثل مصانع تجميع المحوّلات وتصنيع وبرمجة عدادات الدفع المقدم.

Illustration by Othman Selmi

Illustration by Othman Selmi

الخاتمة

ربما من الأجدر أن نخطو حتى ولو خطوات صغيرة في الاتجاه الصحيح المستدام والعادل اجتماعياً عوضاً عن القفزات الكبيرة لحل مشاكل فئات محدودة (الطبقات العليا والغنية) بخيارات ذات تكلفة بيئية واجتماعية كبيرة (غالبًا ما تقع على كاهل الطبقات الفقيرة والمهمّشة). فبالإضافة إلى مشكلة الوصول إلى الشبكة التي ظل يعاني منها سكان الريف والرحّل والطبقات الحضرية الهشة  بنسبة أكبر، فقد تفاقمت حدة انقطاع التيار الكهربائي المتكرر في المناطق الحضرية. بينما بإمكان هذه الأزمة تعزيز العقلية الباحثة عن الحلول الطارئة والأقل تكلفة، فقد تكون أيضاً فرصة لإعادة التفكير في الطرق المعهودة لتوليد وإدارة الإمداد الكهربائي.

لقد ظل التجاهل التام لمُعاش المجتمعات المحلية ومشاكلها سمةً تميّز مشاريع الطاقة الضخمة متمثّلةً في محطات السدود المائية منذ الاستقلال وحتى اللحظة، ويتمظهر التجاهل في عمليات التهجير القسري وتدمير سبل العيش التقليدية. وأضف إلى ذلك أنّ التوجه -الذي يتزايد مؤخراً في اتجاه المحطات الحرارية والمدفوع بانخفاض تكلفتها الأولية والسهولة النسبية لعمليات إنشائها- مُضرّ بالبيئة. وقد تبيّنت إشكالات اعتماده على الوقود المستورَد في تضخيم التكلفة التشغيلية لهذه المحطات، خصوصاً في ظل التدهور المستمر للعملة المحلية وارتفاع أسعار الوقود العالمية مؤخراً.

يتجلى في خارطة الطريق الحالية لحل أزمة الكهرباء التبني الكامل وغير المشروط للإصلاحات النيوليبرالية المملاة من المؤسسات المالية العالمية التي تدّعي دعم الشعب السوداني في تطلعاته في الانتقال الديمقراطي. فمعالم الإصلاحات المستقبلية لم تحِد كثيراً عمّا سبقها من استراتيجيات للقطاع من العهد البائد أو حتى مخططات مشاريع الطاقة المائية التي وضعها المستعمر. تتعلّق أهم هذه الإصلاحات برفع تدريجي للدعم عن تعرفة الكهرباء وجذب مستثمري القطاع الخاص وتقدير السعات المستقبلية باستخدام معايير التكلفة الدنيا؛ ثلاثة محاور نوقشَت تبعاتها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، خصوصاً على الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.

لا تدّعي هذه المقالة الإجابة الكاملة على الأسئلة الشائكة التي تطرحها الأزمة الحالية للكهرباء بالبلاد لكنّها حاولت الإشارة إلى المعايير الأساسية والأولويات التي يجب أخذها في الحسبان عند التفكير في الحلول، والأسباب التي تجعل طريقة التفكير الحالية معيبة. ففي جانب الإمداد نجد إشكالية إعطاء الأولوية للقطاع الخاص ولمحطات توليد مركزية بمصادر طاقة غير صديقة للبيئة لاعتبارت مالية بحتة. بينما في جانب الاستهلاك نرى الأهمية الثانوية المعطاة للمواطنين خارج الشبكة وفي المناطق المهمشة بالإضافة إلى ارتفاع التعرفة غير المتناسب مع أوضاع الفئات الأكثر فقراً.

كذلك يجدر التأكيد على عدم وجود حل واحد يستجيب لمتطلبات كل الفئات، الأمر الذي يستدعي دراسة وفهم احتياجات وسياقات الفئات الإجتماعية المختلفة، ما سيملي بالضرورة حلولاً تقنية و هياكل مؤسساتية مختلفة، وما سيقتضي بدوره متطلبات تمويل متباينة تمكن من حشد موارد مالية تتنوع بين التمويل الذاتي والعمومي ورأس المال الخاص ومساعدات التنمية منخفضة أو صفرية الفوائد. كما بإمكان السودان ضم صوته للدفع بأجندة التعويضات المناخية58 للحصول على مصادر مالية لاتحمله أعباء ديون إضافية، و تمكنه من تبني تقنيات توليد طاقة تساهم في  تقليل الإنبعاثات وتحد من الإعتماد على المصادر النباتية للوقود التي تهدد الغابات والغطاء النباتي. ما سيمكّن أيضاً من الوصول إلى المزيج الملائم من الحلول التي تعتمد على نظام الإمداد المركزي أو غير المركزي أو المستقل وتخصيص ميزانيات أكثر عدالة  اجتماعياً.

مثل كثير من المشاكل في دول جنوب العالم، تحتاج أزمة الإمداد الكهربائي الحالية في السودان إلى حل عاجل ومستدام وقابل للتنفيذ، ما يتطلب درجة عالية من التخطيط المتكامل بين أجهزة الدولة المختلفة وإعادة ترتيب للأولويات وفقاً لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية العادلة والمستدامة والموائمة للسياقات المحلية. يجب على الانتقال الطاقي الأخضر والعادل في السودان  أن يأخذ بعين الاعتبار أهمية صياغة السياسات بصورة مستقلة عن الإرث الاستعماري القديم بخياله، والذي يرتكز على بنى تحتية ضخمة وأيقونية تُشيّد لرمزيتها السياسية وتخدم النخب، وأن يكون بعيداً كل البعد عن الواجهات الاستعمارية الجديدة بوعودها للتمويل، الذي لا تنعكس آثاره سوى في أسعار أسهم الشركات العابرة للقارات.

Ideas into movement

Boost TNI's work

50 years. Hundreds of social struggles. Countless ideas turned into movement. 

Support us as we celebrate our 50th anniversary in 2024.

Make a donation