قطاعُ الطاقةِ بالمغرب التبعيّة الدائمة
لا يزال قطاع الطاقة بالمغرب محور تبعية حتى اليوم، حيث يعتمد البلد بشكل كبير على واردات الطاقة الأُحفورية بنسبة 90%. يسعى هذا المقال إلى فهم الأسباب التاريخية والاقتصادية والسياسية لهذه التبعية، التي تهدد السيادة الطاقية بالمغرب وتعزز التفاوت الاجتماعي، مع تحميل أفقر السكان ثمن خيارات سياسية اتخذتها نخبة مستعمرة تعاونت مع شركات دولية وبنوك عالمية.
تعد هذه الورقة فصلا من كتابيْ "تحدي الرأسمالية الخضراء: العدالة المناخية و الانتقال الطاقي في شمال أفريقيا" الذي نُشر بالتعاون مع دار الصفصافة و "تفكيك الاستعمار الأخضر: العدالة الطاقية والمناخية في المنطقة العربية"، الذي نشر بالتعاون مع دار النشر Pluto Press باللغة الانجليزية.
لم يشهد قطاعُ الطاقة بالمغرب، رغم استقلال البلد في عام 1956، غير وضعِ التبعيّة. إنها تبعيّة أوّلًا إزاء واردات الطاقات الأُحفورية، التي ما تزال تُمثّل في 2019-2020 زُهاء نسبة 90 في المئة من التموين الإجمالي بالطاقة الأوّلية، و80 في المئة من التموين بالكهرباء1؛ وثانيا إزاء القطاع الخاص، المتحكّم اليوم في مُعظم إنتاج الكهرباء (84 في المئة)2 وقرابة مُجمل توزيع الطاقة.
كان من شأن خطةِ الطاقات المتجدّدة الطموحةِ التي أطلقَتها الدولة المغربية منذ العام 2009، والراميةِ إلى تغطية 52 في المئة من القدرة الكهربائية في أفق العام 2030، أن تُنْقص إلى حدٍ كبير التبعيةَ للمحروقات الأُحفورية المستورَدةِ بنسبة عالية. والحال أَنَّ السياساتِ الليبراليةَ التي تَبَنَّتْها الحكومة لمجمل قطاع الطاقة، ومنها الطاقات المتجدّدة وشراكاتِ القطاعيْن الخاصّ والعام المرافقةَ لها، قد فاقمت التبعيةَ إزاء القطاع الخاصّ وأزمةَ الديون سواءً بسواءٍ.
يروم هذا المقالُ فهم الأسباب التاريخيةِ والاقتصاديةِ والسياسيةِ، لهكذا تبعيّةٍ تُهدّد ما تبقّى من سيادة مغربية، وتفاقمُ أوجهَ التفاوت الاجتماعي، وتحكمُ على أفقر السكانِ بدفع ثمن خياراتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ قرّرتها نخبةٌ مستعمَرةٌ3 تقوم بدورِ شريكٍ للشركات متعدّدةِ الجنسيات وللبنوكِ الدولية.
قطاع الطاقة: من التحكُّم الاستعماري إلى التدابير النيوليبرالية…
في مطلع القرن العشرين، كان الدافعُ الرئيسي للمستعمر الفرنسي الرئيسي لإنتاج الكهرباء هو تسهيلُ استخراج المادة الأوَّلية، لاسيما الفوسفاط، وتحسينُ إنتاجية المناجم وكهربةُ شبكة سكك الحديد الناقلة للمواد الأوّلية نحو المتربول4. في الواقع، كان المقصودُ هو كهربةَ ما كان المستعمر الفرنسي يسمّيه بـ”المغرب النافع”5.
جرى منحُ امتيازاتٍ لإنتاج الكهرباء وتوزيعها. ففي العام 1914، قامت شركة ليون للمياه والإنارة Société Lyonnaise des Eaux et de l’Éclairage باستحداث الشركة المغربية لتوزيع الماء والغاز والكهرباء Société marocaine de distribution d’eau, de gaz et d’électricité (SMD) . وتمت الاستعاضةُ عنها في 30 كانون الثاني/ يناير 1924 بشركة الطاقة الكهربائية للمغرب Énergie Électrique du Maroc (EEM) من قبل الشركة العامة Compagnie Générale du Maroc المستحدَثة في شباط/ فبراير 1921من قِبل رابطة بنوك فرنسية بقيادة بنك باريس وهولندا6.
وعلى الرغم من استقلال المغرب في العام 1956، لم ينتقلْ تدبيرُ قطاع الطاقة، على غرار قطاعات استراتيجية أخرى (من قبيل الزراعة والتزويد بماء الشرب والصناعة والتجارة)، إلى إشراف الدولة المغربية سوى في العام 1963 مع إحداث المكتب الوطني للكهرباء كمؤسسة عمومية مُكَلَّفَة “بالخدمة العمومية في إنتاج الطاقة الكهربائية، ونقلها وتوزيعها” بحسب مرسوم إحداثه7.
ورغم افتقارِ المغرب إلى النفط، اختار اعتبارَه موردَ طاقة أوّلية أساسيًّاّ، وكان يُمثّل 80 في المئة من توليفته الطاقيةِ في العام 1988. 8 وبدءا من منتصف سنوات 1980، وإثر الصدمةِ البتروليّة في 1973، قرّر المكتبُ الوطني للكهرباء رفعَ حصة الفحم الحجري في توليفة طاقة البلد.
وفي مُنتصف سنوات 1990، ورغم حصيلةِ المكتب الوطني للكهرباء في مجال توسيعِ شبكة الكهرباء بالوسط القروي، ومستوى جودةِ الخدمة العمومية إذا قِيسَت جزئيا بغياب انقطاعات عامة في المدن الكبرى، قرّرتِ الحكومةُ تبنّي الدوغما النيوليبرالية. وانطلقتْ، بحفزٍ من المؤسسات المالية الدولية، عمليةُ تفكيك وخصخصةِ وإضفاءِ الليبرالية على قطاع إنتاج الطاقة الكهربائية وتوزيعها لصالح شركاتٍ كبيرة متعددةِ الجنسيات.
وفي إطار تبنّيه برنامج التقويم الهيكلي المفروض من المؤسسات المالية الدولية بعد أزمة الديون في سنوات 1980، 9انخرط المغرب في عملية خصخصةٍ لمنشآته العمومية الأفضلِ مردودية، وفي إضفاء الليبرالية على قطاعات استراتيجية. وكان قطاعُ الطاقة من أُولَى القطاعات المعنيّةِ، مع خصخصة نشاط تكرير النفط وإدخال الإنتاج الخاص في النشاط النفطي. اذ جرت خصخصةُ شركة سامير La Société Anonyme Marocaine de l’Industrie du Raffinage في العام1997 لصالح مجموعة سويدية سعودية Corral Petroleum Holding، مُعظمها مِلكٌ للملياردير السعودي محمد العمودي.
وفي السنة ذاتها، جرى منحُ خدماتِ توزيع ماء الشرب والكهرباء وجمعِ مياه الأمطار والمياه العادمة والإنارة العموميةِ للدار البيضاء الكبرى (4.2 مليون نسمة) لمستغلٍّ وحيدٍ متمثلٍ في شركة ليديك، وهي فرع لشركة ليون الفرنسية للمياه compagnie française Lyonnaise des Eaux، (سويس اونفيرونمان Suez Environnement حاليا).
تمَّ اسنادُ موجةِ الخصخصة الأولى تلك على ترسانةٍ تشريعية ودعائيةٍ كاملةٍ، وسُوِّغَ الأمرُ كعملية لا غِنى عنها “لتحديث” اقتصاد المغرب، فضلا عن استفادته من إسهام تقني من الشركات متعددة الجنسية. والحالُ أنَّ أثرَ عملياتِ الخصخصة تلكَ على الصُّعُد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية كان كارثيّاً.
فإذا انتقينا سامير وليديك كمثاليْن، انتهت خصخصةُ الأولى إلى أكبر إفلاسٍ في تاريخ المغرب، بأربعة مليار يورو من الديون إزاء الدولة، وأكثر من 800 أجير/ة-وعوائلهم- بلا مورد عيش. أمّا فيما يخص ليديك، فقد كشفتْ تقاريرُ متنوعة، منها الرسميةٌ كتقريرُ المجلس الأعلى للحسابات للعام 2014، تجاوزاتٍ عديدةً في مجال الحقوق الأساسية اقترفها المستفيدُ من الامتياز بتواطؤ و/أو صمت السلطاتِ والمنتَخَبين المحلّيين، لاسيما بالحرمان من الربط الاجتماعي بالشبكة وارتفاعٍ في مبالغ فواتير استهلاك الماء والكهرباء مناقضٍ لمقتضيات عقدِ الامتياز. وعلى الصعيديْن الاقتصادي والمالي، لم تلتزمْ ليديك ببرنامج الاستثمار المُتَّفَقِ عليه في العقد فقامت بنقل أموال بالعملة الصعبة في شكل أرباح: 160 مليون يورو لفائدة مالكي الأسهم، وكذلك أرباحٌ تحت قناع نفقاتٍ للشركة الأمّ كمقابل لــ”مساعدة تقنية”، بلغت في العقد الأول 100 مليون يورو10.
وعلى الصعيد التشريعي، جرى، فضلا عن قانون 39-89 المرخصِ لنقل ملكية منشآت عمومية إلى القطاع الخاص الذي افتتح “حفلَ الخصخصة” في مطلع سنوات 1990 ، سَنُّ قانونيْن هامَّيْن في ذلك العقد مُتعلقّيْن بقطاع الطاقة، وكان لهما تأثير عميق عليه:
- المرسوم رقم 94-503 في العام 1994 الذي أنهى احتكارَ المكتب الوطني للكهرباء، وأتاح إدخالَ مُنتجي كهرباء خواص.
- القانون رقم 1-95-141 لسنة 1995 الذي يسمح بفتح سوق المنتجات البترولية أمام الخواص.
الطاقات المتجددة بالمغرب: نيوليبرالية خضراء
على الرغم من برنامجٍ طموحٍ قِوامُه مليارات الدراهم المستثمَرةِ لتطوير الطاقات المتجددةِ، لاسيما الشمسية، وإحدى أكبر محطاتِ الطاقة الشمسيةِ المركَّزة (Concentrated Solar Power) في العالم11، تظلُّ توليفة الطَّاقة في المغرب في عام 2021 معتمدةً أساسًا على المحروقات بنسبة 92.36%، موجهةً بالدرجة الأولى للنقل. فيما يحافظ الفحم الحجري على موقعه السائد في إنتاج الكهرباء بنسبة 57.82%.
ومن جهة أخرى، يظلُّ قطاع النقل أكبرَ مُستهلكي الطاقة في المغرب، بنسبة 38 في المئة من مجمل ما يَستهلك البلد12. يكاد هذا القطاعُ يتوقف كليا على الطاقات الأحفورية، وهو مسؤول على زهاء 50 في المئة من فاتورة الطاقة الوطنية، أي أكثر من 4 مليار يورو في العام 2018، ويُسهم بنسبة 20 في المئة من عجز الميزان التجاري.
وقد مثلتِ الطاقات المتجددةُ، فيما يخص إنتاج الكهرباء، نسبةَ 19 في المئة من الانتاج الوطني في العام 2019، منه 11 في المئة ريحِيّة، و4 في المئة مائية، و4 في المئة شمسية. ويظل الفحمُ الحجري المصدرَ الرئيسَ لإنتاج الكهرباء (65 في المئة)، ويليه الغازُ الطبيعي (11 في المئة)13.
إن تحليلا نقديًّا للإصلاحات التشريعية والمؤسَّسية، المرافقةِ لتطور الطاقات المتجددةِ بالمغرب، لابد أن يُثير سؤالَ مدى استعمال هذا التطور بنحو أساسي كذريعة لإضفاء ليبراليَّةٍ وخصخصةٍ متناميَتيْن على قطاع الطاقة.
فقانون رقم 13-09، المتعلّق بالطاقات المتجدّدة والصادر في 11 فبراير 2010، يُضفي الليبرالية على قطاع الطاقات المتجدّدة، مرخّصًا في الآن ذاته المنافسةَ في إنتاج الكهرباء وتصديرَها عبر الشبكة الوطنية من قبل الشركات الخاصة 14.
دخل قانون شراكةِ القطاعيْن الخاص والعام حيزَ التطبيق في أغسطس 2015، فيما كان نموذجُ “شراكة القطاعين العام والخاص” قد جرى تجريبُه منذ أمدٍ طويل عبر أشكال تعاقديةٍ مثل الامتيازات خارج أيّ إطار معياري قبل أن تُكرِّس النصوصُ القانونية هذا التوجهَ 15، ما أتاح للفاعلين الخواص موقعًا كمنتجين مستقلين (Independent Power Producer – IPP) . وعندها تُباع الكهرباءُ المنتَجَةُ للدولة (المكتب الوطني للكهرباء) الملتزمةِ بشرائها بسعر متّفًقٍ عليه مدةً تمتد من 25 إلى 30 سنة بموجب عقود من نوع (Purchase Agreement-PPA) اتفاقية شراء الكهرباء.16
يستنسخُ هذا النموذجُ، وما تلا من قانون 2015، القانونَ الفرنسيَّ لعام 2004 حول شراكة القطاعيْن العامّ والخاص، ناقلاً بوجه خاصٍ مفهومَ “أداءات قائمة على الجاهزية” الذي يُلزم المكتبَ الوطني للكهرباء، بصفته مؤسسةً عمومية، بأن يؤدّي لذوي الامتياز الخواص ثمنَ مجملِ ما يوفّرون من إنتاج ، بغض النظر عن الحاجاتِ الفعلية. هكذا تؤول الأسبقيةُ للطاقة التي يُنتجها هؤلاء الفاعلون الخواص، أحفوريةً كانت أو متجدّدةً، قبل التي تُنتجها المحطّات العمومية 17. وفي حال انخفاضٍ بالغ في الطلب على الكهرباء، يقومُ المكتب الوطني للكهرباء، المُكْرَهُ على استهلاك الطاقة التي يُنتجها الفاعلون الخواص، بوقف عمل محطاته لتفادي انقطاع الكهرباء blackout؛ ما يفضي إلى تحميل الدولةِ، أي دافعي الضرائبِ، تكاليف أخرى باهظة18.
على هذا النحو، يتجلّى الطابعُ الاحتيالي لهذا النوع من العقود لصالح البنوكِ والفاعلين الخواصِ. فهو لا يقيهم خطرَ كلِّ خسارة أيًّا تكُن طبيعتُها (تقلب لأسعار المواد الاولية، بنيات تحتية، أداء خدمات عمومية، مخاطر مناخية، مخاطر مالية، الخ) وحسبُ، بل يُؤمِّن كلّيا مردوديةَ استثماراتهم، إذ الدفع مضمونٌ حتى لو كان الانتاجُ غيرَ ضروري أو غير مستعمَلٍ. إنه طرازٌ نموذجي حيث تذهب الأرباحُ للخواص، وتقع الخسائرُ المخاطر على كاهلِ المالية العمومية.
الحوكمة الطاقية في المغرب: من يقرّر، من يستفيد، ومن يدفع الثمن ؟
من يقرّر؟
لا تخضع القرارات الاستراتيجية المتعلقةِ بقطاع الطاقة في المغرب إلى أيّ شكل من الرقابة الديمقراطية. ويكشفُ استحداث الوكالة المغربية للطاقات المتجدّدة (Moroccan agency for renewable energy-Masen)، وتعيينُ الملكِ لمصطفى الباكوري مديرا لها، حقيقةَ الأساليب الأوتوقراطيةِ لتدبير هذا القطاع. كان مصطفى الباكوري، عند تعيينه هذا، رئيسَ حزب الأصالة والمعاصرة الذي أسسه فؤاد عالي الهمّة مستشارُ الملك وصديقُه. وتقرّر في العام 2015 توسيعُ صلاحيات الوكالة من الطاقة الشمسية إلى مجملِ الطاقات المتجددة19، والحالُ أنَّ مصطفى الباكوري جرى منعُه، في مارس 2021، من مغادرة البلد20 في إطار “التحري معهُ بشأن سوءِ تدبيرٍ واختلاساتٍ في إطار وظائفه في إدارة ’مازن‘، حسب مصادر قريبة من الملف”21، هذا من دون تقديم أي تفسيرٍ رسميٍّ لحظةَ وقوع الأحداث.
وحصل تهميشٌ تامٌّ في هذا النقاش للمواطنين/ات وللبرلمانيين/ات، وحتى لمهندسي/ات ولتقنيي/ات الشركات العمومية في مجال إنتاجِ التجهيزات الطاقية وتدبيرِها ونقلها وصيانتِها. وقد كان من شأْن استشارتهم/هنّ أنْ تتيحَ تفاديَ أخطاءٍ تقنيةٍ هامة وتحسينٍ الرقابة على “الشركاء” الخواص، هؤلاء المحاطين من جانبهم بخبراء للدفاع عن مصالحهم. وحسبَ ما أسرَّ به مختصٌّ فضلَّ عدمَ ذكر اسمه: “منذُ رفع الطاقات المتجددةِ إلى مقام قطاعٍ استراتيجيٍّ، استجمعتِ الوكالةُ كلّ صلاحيات التنمية المستدامة، وباتت كُلّيةَ القوّة”. وأضاف قائلا: “وعلى غرارِ كلّ مشروع ملكيٍّ كبير، ساد قانونُ الصمت: كان الجميعُ يدرك تأخّرَ المشاريع وكلفتَها الباهظة، لكن ما مِنْ أحدٍ تجرّأَ على طلب كشوفِ حسابٍ”22.
من يستفيدُ من ذلك؟
قام العامةُ من المواطنين، في العام 2018، بتنظيم حملة مقاطعة مبتكَرة عبر الشبكات الاجتماعية ضد ثلاثِ علامات تجارية اشتهر أصحابُها بالقرب من القصر الملكيّ: دانون، وسيدي علي، وأفريقيا المملوكة للملياردير القوي عزيز أخنوش، الذي عيَّنه الملكُ رئيسا للحكومة في أيلول/ سبتمبر 2021. وبعد هذا العصيان المدني ، أنجز مجلسُ المنافسة دراسةً مُعَمَّقَة في العام 2019 حول قطاعِ البترول، وكشفت الدراسة وجود “اختلالات”، أي ممارساتِ احتيال .
عِوض تشجيع المنافسة، التي كانت الحجةَ الرئيسةَ في جُعبة المدافعين عن إضفاء الليبرالية على القطاع في العامّ في 2014، أدّى ذلك الإضفاءُ إلى خلق وضعِ احتكارِ أقليةٍ على كافة الصُّعُد: الاستيراد، التخزين، البيع للموزّعين، والبيع للمستهلكين. إذ كان “الفاعلون الخمسُ الأوائل [يستحوذون] على 70% من السوق في العام 2017، وكان ثلاثةٌ منهم مُمسكين بنسبة 53.4%”23. وبمقدّمة الجميع شركةُ أفريقيا لصاحبها أخنوش.
وتفاقم وضعُ احتكار الأقلّية هذا مع إغلاق مصفاة ’سامير‘ في العام 2015، فيما كانت هذه تُؤَمّن 64% من الطلب على المنتجات المُصَفَّاة ومقدرةَ تخزينٍ كبيرةً (2 مليون متر مكعب). “على هذا النحو، ارتفعت فاتورةُ الطاقة بقوة، وتفاقم بشدةٍ عجزُ ميزان التجارة، وجرى إضعافٌ شديدٌ للشركات الصغيرة والمتوسطة لصالح أكبرِ الفاعلين” حسب رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الصادر عام 2020.
إن لمْ يتحقَّق هدفُ إنتاج 42% من الطاقة الكهربائية من مصدر متجددٍ، بحسب أرقام الحكومة الرسمية (أنظر رسميْن بيانيّيْن رقم 1 و2)، فقد تمَّ تجاوزُ هدفِ رفع حصةِ الامتيازات الخاصة في إنتاج الكهرباء. ففي نهاية العام 2021، بات القطاعُ الخاص مُتحكّمًا في ثلثي (71.8%) إنتاج الطاقة الكهربائية في المغرب، حسب آخر أرقام وزارة الطاقة والمعادن والماء والبيئة:
طاقة كهربائية تحت التحكُّمِ التامّ للقطاع الخاص
إن لمْ يتحقَّق هدفُ إنتاج 42% من الطاقة الكهربائية من مصدر متجددٍ، بحسب أرقام الحكومة الرسمية (أنظر رسميْن بيانيّيْن رقم 1 و2)، فقد تمَّ تجاوزُ هدفِ رفع حصةِ الامتيازات الخاصة في إنتاج الكهرباء. ففي نهاية العام 2021، بات القطاعُ الخاص مُتحكّمًا في ثلثي (71.8%) إنتاج الطاقة الكهربائية في المغرب، حسب آخر أرقام وزارة الطاقة والمعادن والماء والبيئة:
رفعت النخبةُ الحاكمة إنتاجَ الخواص العاملين بامتيازات، أحفوريَّ المصدر كان أو مُتجدَّدَهُ، إلى مقام مُسلّمةٍ لا محيد عنها. ويتمثلُ أولُ مستفيد منها في الشركات الفرنسية متعددةِ الجنسية (Engie)، ونظيرِتها الإسبانية (Gamesa)، والسعودية (Acwa)، والإماراتية (Taqa) ، والألمانية (Siemens)، المتعاونةِ في الغالب مع شركات محلية من قبيل ناريفا Nareva التابعة للعائلة المَلَكيّة، أو عائلاتٍ شديدةِ البأس وقريبةٍ من الحكم، منها عائلات أخنوش وبنجلون مثل (Green of Africa).
نورِد على سبيل المثال إسنادَ طلب العروض الدولي الخاصِ بقطاع الطاقة الشمسية في مايو 2021، المتعلقِ بتصميم مشروع نور ميدلت 1، ذي قدرة 800 MW وتمويله وبنائه واستغلاله وصيانته، لاتحاد تقوده EDF Renouvelables الفرنسية، ويتكونُ من شركة مصدر الاماراتية وGreen of Africa المغربية.
نعيدُ إلى الأذهان أنَّ Green of Africa مِلْكُ ثلاثةٍ من أغنى العائلات بالمغرب: بنجلون (مجموعة Financecom & BMCE)، وأمهال (groupe Omafu et Somepi)، وأخنوش (Akwa) وزير الفلاحة والصيد البحري طيلة 15 سنة.
و في مجال الطاقة الريحية، تستأثرُ ناريفا، فرع المجموعة الملكية مدى (الشركة الوطنية للاستثمار، وأوناسابقا) بحصة الأسدِ عبر فرعها Énergie Éolienne du Maroc. وتحوزُ اليوم خمسةَ محطاتٍ خاصة بها MERCHANT PLANT بمقتضى قانون رقم 13-09، ذات قدرة إجمالية تفوق 500 ميغاوات، ويباعُ إنتاجها مباشرةً للصناعيين 25. كما تحوزُ، بتشارك مع العملاق الفرنسي Engie ، محطةَ طرفاية، وهي من الأكبر في أفريقيا، ذاتَ قدرة 300 ميغاوات، تباعُ طاقتُها حصرا للمكتب الوطني للكهرباء باتفاقية شراء طاقة لمدة 20 سنة 26.
وفي العام 2016، أعلنتْ ناريفا نيلها عرضَ المشروع الريحي العملاق، بقدرة 850 ميغاوات، المكوّنِ من محطات الريح في ميدلت -210MW –وبوجدور – 300 MW – وجبل الحديد 270 ، وتسكراد ، في طرفاية- – 300-، وهو مشروعٌ فازت به ناريفا في العام 2016 بتشارك مع مُصنِّع توربينات الرياح Siemens Gamesa Renewables (ألمانيا-اسبانيا).
ولابدَّ من التذكير أيضا بمسؤولية مجموعة مدى، التي تمثل اليوم رائدا في مجال التنمية المستدامة، عن تدمير أنظمة بيئية عديدة وتلويثها. “لم تكن مقاولتها لإنتاج السكر كوزومار Consumar متورطةً في كوارث التلويث وحسبُ، بل سبَّبَ فرعُها المنجمي Managem، ومنجمُها للفضة في إميضر، جنوبَ المغرب، تلويثَ مياه جوفيةٍ، وكانت ما تزال في نزاع مع السكان المحلّيين حول موارد المياه” 27.
إنّ الفاعلين المستفيدين من المشاريع الخضراء في المغرب، على غرار ما يُلاحظ في بلدانَ أخرى، يجرُّون معهم بشكل عام تاريخا مديدا من التلويث وتدميرِ الأنظمة البيئية. وفي الواقع، ليستْ إعادة توجيه قسم من استثماراتهم صوبَ الطاقات المتجدّدةِ غيرَ طريقة أخرى، أكثر مردودا في الغالب، لاستدرار أرباحٍ مالية ولتجريد السكانِ المحليين من أقاليمهم.
من يدفع الثمن؟
يتحمل السُكّانُ، بما هم دافعو ضرائب، ومجملُ المستهلكين/ات، العواقبَ المالية لهذا النظام المُصَمَّمِ كي يكون غيرَ منصف نهائيا وفي مصلحة المستثمرين الخواص حصرا. فالعقود الموقَّعةُ في أُطُرِ منحِ الامتياز في سنوات 1990 ومطلعِ سنوات 2000، لاسيما عقودُ شراء الطاقة، تُجبر المكتب الوطني للكهرباء على شراء الطاقة من الفاعلين الخواص حسبَ توافرها وبأسعار تفوقُ سعرَ البيع للتوزيع وللاستهلاك، وكذا على تحمّلِ تقلّباتِ أسعارِ الموادِ الأولية، لاسيما الفحم الحجري. وهذا ما أغرق المؤسسة في أزمة مالية هيكليةٍ غير مسبوقة. وقامت الحكومةُ بإنقاذها عبر إبرام عقد – خطة معها يتيح لها رفع الأسعار بنسبة 20% ، وهو ما أقدمتْ عليه في العام 2014 .28
قد يعودُ هذا الوضعُ للظهور، لأنّ مشاريعَ الطاقات المتجددةِ الحديثةِ محكومةٌ بنفس نوعِ العقودِ الموقَّعَةِ لمدة 30 سنة، مُديمَةً استثماراتٍ كثيفةً من قبل الدولة دون أيٍّ ضمانة لانخفاض أسعارِ الطاقة الكهربائية لصالح السكان.
وقد اتضح أن إقدامَ ’مازن‘ على اختيار تكنولوجيا الطاقة الشمسية المركَّزة CSP، دون أي استشارة، اختيارٌ كارثيٌّ، بسعر كلفةٍ بلغ 1.62 درهما للكيلوات/ ساعة KWh في نور 1، و 1.38 درهما في نور 2، و 1.42 درهما في نور 3، فيما تبيع ’مازن‘ الكيلوات/ ساعة للمكتب الوطني للكهرباء بـ0.85 درهما. وبهذا النحوِ، تُسجِّل مازن كل سنة خسارةً قدَّرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي29 بـ80 مليون يورو فيما يخصُّ محطات نور 1 و2 و3.
وتكتسي مسألةُ الديون والتمويلِ أهميةً أساسيةً. فكلُّ مشاريعِ إنتاج الكهرباء الحديثة، حتى تلكَ المسماةِ “خضراء”، يجري تمويلُها بقروض من البنوك الدولية الخاصةِ وبنوكٍ متعددةِ الأطرافوصندوقِ النقد الدولي والبنكِ العالمي وبنكِ التنمية الافريقي ووكالاتِ التنمية الفرنسيةِ والألمانيةِ واليابانيةِ.
أبرمتْ ’مازن‘ في قطاع الطاقة الشمسية ديونا مضمونةً من قبل الدولة المغربية من أجل تطوير البُنَى التحتية ِاللازمةِ لتطوير المشاريع (طرق، بُنَى تحتية مائية، سياجات، خطوط ومراكز تحويل لنقل الطاقة)، وكذلك بقصد تمويلِ مشاركتها في كُلِّ واحدةٍ من الشركات ذات الأغراض الخاصة SPC (Special Purpose Company) أي المُشَكَّلَةِ بوجه خاص للإشرافِ على هذا المشروع أو ذاك (نور ورززات، نور ميدلت، الخ) كما يوضح الرسم البياني التالي :
يظلُّ مانحو القروض الفاعلَ الرئيسَ في هذه المشاريعوالماسك بسلطةُ الحسم في جميع القرارات الاستراتيجية . لذا من صميم المنطقِ أن تكون جنسيةُ (أو جنسيات) مانحي القروض مطابقةً لجنسية (أو جنسيات) الشركات المنخرطةِ في المشروع، سواءً كفاعل (مثلالفرنسي Engie والألماني Siemens، والخ) أو كشركات تجهيزٍ (مثل الفرنسي Alstom والياباني Mitswi والخ).
جرى تمويلُ مشروع محطة أسفي الحرارية، ذاتُ قدرة 1369 ميغاوات (25% من الطلب الوطني)، وباستثمار إجمالي بلغ 2.3 مليار يورو، من قِبَل البنك الياباني للتعاون الدوليوبنكيْ التجاري وفابنك (مجموعة مدى الملكية) والبنكِ المغربي للتجارة والصناعة، وهو فرع مغربي لبنك باريس الوطني-باريبا BNP Paribas . والشركةُ المستفيدة من امتياز الـ 30 سنة الخاص بالمشروع هي Safi Energy Company، وهي مقاولة في ملْك مشترك بين ناريفا (مجموعة مدى الملكية) (35%) والفرنسي Engie ،GDF Suez سابقا، ب 35% والشركةِ التجارية اليابانية Mitsui ب30%. 30
وتنضافُ هذه القروض لتُثقل ديْنًا عموميا يُقارب، في تمام العام 2021، نسبةَ 100% من الناتج الداخلي الإجمالي31، وتبتلعُ خدمتُه أكثرَ من ثلثِ ميزانية الدولة، مُمثّلةً زهاء 10 أضعاف ميزانية الصحة32.
بعض السُّبل من أجل انتقال طاقي عادل بالمغرب
يجدرُ التأكيد على الفشل البيّنِ للنموذج الطاقي الليبرالي على الصُّعد الاقتصادية والبيئية، وبوجه خاص من زاوية نظرِ العدالة الطاقية والبيئية. تعترفُ التقارير الرسمية، ومنها الصادرةُ عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بهذا الفشل، مع مواصلةِ الدعوة الى إضفاء الليبرالية والتفكيكِ والخصخصةِ.
والحال أن انتقالًا طاقيًّا عادلا متعذّر طالما يظل قطاعُ الطاقة تحتَ تحكّمِ شركات أجنبيةِ متعددةِ الجنسية و”نومونكلاتورا” محليةٍ طليقي اليدين في نهبِ الدولة وخلقِ ما يحلو لها من أرباح في مناخ استبدادٍ ومحسوبيةٍ. يُمثّل نظام الديون، وشراكات القطاعين العام والخاص، عقبةً كأداء بوجه كل سيادةٍ شعبيةٍ، وحتى وطنيةٍ، ومنها السيادة الطاقية.
إنّ انتقالا طاقيا عادلاً يستوجبُ سيادةَ السكان المحليين على كل مرحلة من مراحل عمليةِ الإنتاج: التصميم، والتشييد، والاستغلال والتخزين، والتوزيع.
يجب اعتبارُ قطاع الطاقة خدمةً عمومية، يُسيّرها عمالُ القطاع والسكانُ المحليون الذين قبلوا تشارك قسما من أقاليمهم (أرض مياه، غابات،…)لأجل الصالح العام. وفي هذا الإطار، يجبُ أن يستفيد السكان المحليون كذلكمن تعريفات تفضيلية، وحتى من مجانية خدماتِ الكهرباء. ويجب أن تحُلَّ مكان الأشكال البيروقراطية الراهنة أشكالُ حكامةٍ محلية وغير مُمَركزةٍ.
إن تفضيلَ الحلول والمشاريع غيرَ الممركزة يعني أيضا أقصى تقريبٍ لأماكن إنتاج الطاقةِ من المستعملين/ات بقصْد تفادي ضياعِ الطاقة بمفعول جُول33، وتقليصِ كُلفة نقل الطاقة الكهربائية. وهذا ما يستتبعُ أيضا تصميمَ مشاريع على نطاق أصغر يُيَسِّرُ تمويلها محلّيا وبمساعدة الدولة.
ويجبُ أن تنبثق أشكالُ دمجٍ محليةٌ، قائمةٌ على مبدأ التضامن والمصلحةِ المشتركة، وأكثرُ ملاءمةً لطبيعة التيار الكهربائيِّ الفزيائيةِ، وحيث يكون من مصلحة الحائزِ على فائض طاقةٍ أن يُعطيه لمن يحتاجُه تفادياً لتوقُّف عامٍ للتزويد بالكهرباء.
تعالتْ، بوجه ما يمكنُ وصفُه بالطُّغيان النيوليبرالي، واختلالِ موازين القوى لصالح الطبقاتِ المسيطرة، أشكالُ استياءٍ واحتجاجٍ مختلفةٍ قام بها السكانُ المحليون، وسعتْ إلى بناء بدائلَ مضادةٍ للتدبير والاغتناءِ الخاصين ومعارضةٍ لشكلِ الاستعمار الجديدِ الذي تُمثِّل الخصخصةُ أداتَه ورمزَهُ. إن التوقَ الفعليَّ إلى بناء مجتمع أكثرَ عدلاً وديمقراطيةَ يوجِبُ بنحو أساسي الانصاتَ لتلك المبادرات ودعمَها، وربطَ مسألة الانتقال الطاقي بالإشكاليات الاقتصادية- الاجتماعية.